أقلام ثقافية
عبد السلام فاروق: بيتر جران في القاهرة

لا أذكر تفاصيل الأمسيات التي أعقبت صدور "ما بعد المركزية الأوروبية" إلا كأحلام ملونة بالحماس. كان الكتاب حدثاً ثقافياً استثنائياً، كأنه عيد لم نتوقعه. في مقاه وسط القاهرة وبين أروقة دار الأوبرا، كان المثقفون المصريون يتهادون النسخ كهدايا ثمينة، وكأنهم يقولون: "هذا ما كنا ننتظره". لم يكن مجرد كتاب، بل كان تمرداً على الزمن الراكد، إعلاناً أن التاريخ لا يروى من فوق منصات الإمبراطوريات، بل من زوايا المقاهي حيث يجلس المهمشون ليحكوا حكاياتهم.
الصديق إبراهيم فتحي، الناقد والمترجم الراحل، كان يضحك في إحدى الندوات وهو يقول: "هذا الكتاب سيفتح جبهات جديدة.. لن تسلموا من أسئلته!". كأنه كان يعرف أن الأفكار ستتسرب كالنار في الهشيم. في القاهرة، حيث المثقفون اعتادوا أن يطعموا بالفكر الغربي جاهزاً، جاء جران ليقلب المعادلة: "أنتم لستم تلاميذ، بل شركاء في كتابة التاريخ". كانت هذه الجملة وحدها كافية لتشتعل القاعة بالتصفيق، وكأننا نسمعها لأول مرة.
الفرح الذي خلفه الكتاب لم يكن فرحاً ساذجاً، بل فرح أشبه بصحوة. صحوة من سبات فرضته علينا أكذوبة "المركز والهامش". لسنوات، كنا نقرأ التاريخ وكأننا ننظر إلى مرآة مشوهة، فجاء جران ليكسر المرآة، ويرينا أن العالم مرايا متعددة، كل منها يعكس وجهاً مختلفاً للحقيقة. في ندوات المجلس الأعلىللثقافة بالأوبرا، كان النقاش يدور كرقصة صوفية: أسئلة عن دور المثقف العضوي، عن كيف نصنع وعياً لا يكرر خطاب السلطة، عن جرامشي الذي صار فجأة "مصرياً" في سياقنا المحلي.
الأمر الأكثر إبهاراً كان اللغة. كيف لكتاب نظري أن يتحول إلى حديث الشارع؟ لأن جران لم يكتب عن "الشعوب" ككائنات مجردة، بل عن لحظة التقاء المثقف بالفلاح، والعامل بالشاعر، وكيف أن الثورة الثقافية تبدأ حين يتوقف "الهامش" عن انتظار التعليمات من "المركز". في مصر، حيث الثقافة الشعبية تنبض بحيوية تتفوق أحياناً على الثقافة الرسمية، وجد الكتاب تربة خصبة. الشباب الذين شاركوا في الندوات كانوا يصرخون: "هذا ما نعيشه!".
الترجمة، بروحها العربية المصرية، دور المحول الكهربائي. إبراهيم فتحي وعاطف أحمد ومحمود ماجد لم ينقلوا الكلمات، بل أنعشوا روح النص. جملة مثل "الثورة الثقافية هي انتفاضة الوعي ضد الاستلاب" صارت تردد في أروقة جامعة القاهرة كما تردد الأغاني الثورية. كأن المترجمين كانوا يعرفون أنهم لا يترجمون كتاباً، بل يزرعون بذوراً ستزهر لاحقاً في حركات فنية وأدبية.
اليوم، حين أعود إلى الكتاب، أتذكر تلك الليالي المليئة بـ"قهقهات" النقاش ورائحة الورق الجديد. كان بيتر جران، بلهجته المصرية الطريفة، يقول: "التاريخ ليس متحفاً، بل ساحة معركة". وكأنه كان يعلمنا أن نكتب تاريخنا بأيدينا، لا أن نستعير سرديات الآخرين. الكتاب لم يغير طريقة تفكيرنا فحسب، بل أعطانا جرأة أن نضحك في وجه الوصاية الثقافية، أن نقول لأوروبا: "شكراً، لكننا لسنا بحاجة إلى مرآتكم بعد الآن".
الآن، وقد صارت "ما بعد المركزية الأوروبية" جزءاً من ذاكرة جيل، أتساءل: ألم تكن تلك الفترة بذرة للربيع الثقافي العربي الذي تلاه؟ ربما. لكن الأكيد أن الكتب الحقيقية لا تنتهي عند غلافها، بل تستمر كصدى يحرك الأسئلة. والصدى الأجمل أنه لم يعد صمتاً.
مهرجان شعبي..
كانت المفاجأة أن يصبح الكتاب الفكري "حدثا شعبيا". لم نعتد أن تلامس النظريات الماركسية حرارة الشارع المصري بهذا الوهج، لكن "ما بعد المركزية الأوروبية" اخترق القواعد ببراعة؛ فالمثقفون في مصر، الذين طالما تنازعتهم هويات بين شرقية وغربية، وجدوا في هذا الكتاب خريطة للخروج من المتاهة. لم يكن سردًا تاريخيا، بل كان دليلًا عمليا لاستعادة الكرامة: كرامة السرد، وكرامة الوعي، وكرامة أن تكون "هامشًا" يرفض أن يختزل إلى رقم في معادلة المركز.
الفرح الذي لا يشبه سواه كان فرحًا بالتحرر من "أبوة" الغرب الفكرية. تذكرت كلمات جران في إحدى الندوات حين قال: "التاريخ ليس إرثا تحصيه الشعوب، بل هو ذاكرة حية تنتج مقاومة كل يوم". كانت كلماته كالماء في صحراء؛ فالمثقفون المصريون، الذين عانوا من عقدة التابع والمقلد، بدأوا فجأة يكتبون مقالات تبدأ بعبارة: "كما يقول بيتر جران..."، وكأنهم وجدوا أخيرًا سلاحًا نظريا ضد الاستلاب.
اللافت أن الكتاب لم يناقش فقط في الجامعات، بل تسلل إلى حلقات مقهى البستان، وإلى جلسات الفنانين في أتيليه القاهرة، وحتى إلى "الواي فاي" المجاني في المولات. كان الشباب يتساءلون: "هل يعني هذا أننا لسنا متخلفين، بل نكتب تاريخنا بطريقة مختلفة؟". السؤال نفسه كان ثورة صغيرة، لأن الثقافة المصرية ظلت لقرون تعيش تحت وهم أن التقدم يسير في خط مستقيم من أثينا إلى باريس، وأن عليها أن تنتظر دورها في ذيل الركب!
إبراهيم فتحي، بابتسامته الواسعة، كان يحرص أن يقول في كل ندوة: "هذا الكتاب ليس ترجمة، بل هو استعادة لأصواتنا المدفونة". كان الرجل يعرف أن الكلمات التي نقلها من الإنجليزية إلى العربية تحمل في طياتها روحًا مصرية خالصة؛ فجرامشي، بتركيزه على "المثقف العضوي" و"الهيمنة الثقافية"، لم يكن بعيدًا عن واقع عاشه المصريون: فلاحو صعيد مصر الذين يحولون الأرض إلى قصيدة، وعمال المحلة الذين ينتجون وعيًا ثوريا بين آلات الغزل، وحتى "الفلاحات" في الأسواق الشعبية اللاتي يبتكرن فلسفة خاصة للبقاء.
الكتاب، بفضل الترجمة الحية، جعلنا نرى أنفسنا في مرآة جديدة. لم نعد ذلك "الآخر" الذي يدرسه الغرب في أطالسِه، بل صرنا فاعلين في التاريخ. حتى النقاشات التي اشتعلت حوله كانت جزءًا من رسالته: ففي ندوة بمكتبة الإسكندرية، وقف شاب يسأل: "إذا كانت أوروبا مجرد مركز وهمي، فلماذا لا نكون نحن المركز الجديد؟". رد عليه مثقفٌ مخضرم: "الكتاب لا يدعوك لاستبدال مركز بآخر، بل لتحطيم فكرةِ المركز نفسها!". كانت تلك الإجابة جوهر الثورة: أن نعيش في عالم لا يقاس بالمسافات من عاصمة إلى أخرى، بل بالمساحات التي نصنعها بيننا كبشر.
اليوم، وأنا أتصفح نسختي البالية من الكتاب، أتذكر كيف كان الوعي يولد كل يوم في تلك الفترة. لم نكن نقرأ فصولًا، بل كنا نعيشها. جران لم يأت إلينا بنظرية جاهزة، بل أشعل نارًا في كل سؤال كنا نخاف أن نطرحه: ماذا لو كانت النهضة العربية لم تفشل، بل اختلفت طريقتها عن النهضة الأوروبية؟ ماذا لو كان "التخلف" مجرد خرافة اخترعها المركز ليبرر هيمنته؟ ماذا لو كنا، نحن المصريين، قد اخترعنا ماركسية خاصة بنا دون أن ندري؟
الكتاب علمنا أن الثقافة أقوى من المدفع. وأن الهزيمة الحقيقية ليست في الاحتلال، بل في أن تصدق أنك لا تستحق أن تكتب تاريخك. الآن، وبعد سنوات، لم يعد السؤال: "هل تغلبنا على المركزية الأوروبية؟"، بل صرنا نسأل: "كم مركزًا جديدًا سنصنع قبل أن تنتهي الحياة؟".
***
د. عبد السلام فاروق