أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: هل سيطرة العمل على الانسان تجعل الحياة تستحق العيش؟

مصطلح العمل الكلي Total work صاغه الفيلسوف الالماني جوزيف بيبير بعد الحرب العالمية الثانية في كتابه (الترفيه: أساس الثقافة، 1948)، ويعني به العملية التي يتم من خلالها تحويل البشر الى عمال ولاشيء آخر. ظاهرة العمل الكلي هي نتاج لترافق الخوف من محدودية العمل مع تصوّر العمل كفضيلة. لو تصورنا ان العمل سيطر على العالم، عندئذ سيكون هو المركز الذي تدور حوله بقية الحياة. وسيصبح كل شيء آخر خاضعا للعمل. هنا وبشكل بطيء وغير محسوس، سوف تصبح كل الاشياء الاخرى مثل الألعاب التي نلعبها، الأغاني التي يتم غنائها، مظاهر الحب المنجزة والمهرجانات المحتفل بها كلها متشابهة وتصبح بالنهاية عملا. ثم يأتي وقتا هو ذاته غير مُلاحظ، عندما تختفي كليا من السجل الثقافي العديد من العوالم التي كانت موجودة قبل هيمنة العمل على العالم و يطويها النسيان.
في هذا العالم من العمل الكلي كيف يفكر الناس وكيف يتكلمون ويتصرفون؟ عندما ينظر الناس في أي مكان سيرون موظفا سابقا، موظفا، موظف بعقد، وغير موظف او عاطل، وسوف لن يكون أي شخص خارج هذا التصنيف. في كل مكان هم يمدحون ويحبون العمل، يتمنون ان يبذل كل شخص جهده ليوم منتج، يفتحون أعينهم على العمل ويغلقونها فقط عند النوم. في كل مكان هناك أخلاق العمل الشاق التي يتم تمجيدها كوسيلة يتحقق بواسطتها النجاح، والكسل يُعتبر أعظم الخطايا. في كل مكان بين مقدمي المحتوى، وسطاء المعرفة، مهندسو التعاون ورؤساء الاقسام الجديدة سوف نسمع ثرثرة متواصلة حول سير العمل، الخطط والمعايير، التوسع والعائدات والنمو.
في هذا العالم، الأكل، الراحة، الجنس، التأمل والتنقل – يتم مراقبتها بدقة ويجري تحسينها باستمرار – ستكون سببا للصحة الجيدة، والتي بدورها توضع في خدمة من يكون أكثر انتاجية. لا أحد يشرب كثيرا، البعض سيتناول جرعة صغيرة من المخدرات كي يعزز ادائه، وكل شخص سيعيش الى أجل غير محدود. في الزوايا، تنتشر الشائعات حول الموت او الانتحار من الإرهاق، لكن مثل هذه الهمسات الخفيفة لا تُعتبر اكثر من مظاهر محلية لروح العمل الكلي، حتى ان البعض يرى هذه طريقة جديدة بالثناء لإنجاز العمل الى حدوده المنطقية المتمثلة بالتضحية النهائية. لذلك، في كل زوايا العالم، سوف يتصرف الناس لكي يكملوا توقهم العميق للعمل الكلي: ليروا أنفسهم يتجلّون بشكل كامل.
هذا العالم، ليس من الخيال العلمي، انه بلاشك قريب من عالمنا. مصطلح "العمل الكلي" يعني، ان العمل بالنهاية سيصبح كليا، في الحقيقة، ان العمل الكلي يحصل عندما يكون هو المركز الذي تدور حوله كل حياة الانسان، عندما كل شيء آخر يوضع في خدمته، عندما تتشابه التسلية، الاحتفالات واللعب تدريجيا وتصبح عملا، عندما لا يبقى هناك بُعد آخر للحياة وراء العمل، عندما يعتقد الانسان تماما اننا وُلدنا فقط لنعمل، وعندما تختفي من الذاكرة الثقافية تماما جميع طرق الحياة الاخرى التي كانت موجودة قبل انتصار العمل الكلي.
نحن على وشك بلوغ العمل الكلي. كل يوم نتحدث مع اناس يسيطر العمل على حياتهم، محوّلين عالمهم الى واجب، افكارهم عبء غير مُعلن.
بالنسبة للشخص المختلف الذي كرس نفسه لحياة التأمل، يأخذه العمل الكلي ليكون في الاساس شخصا يقف أمام العالم الذي يُفسّر كمجموعة لامتناهية من المهام تمتد الى مستقبل غير محدد. بعد هذه المهاماتية taskification للعالم، يرى المرء الزمن كمورد نادر يجب استعماله بحذر، وهو دائما قلق بما يجب عمله، وعادة هو قلق حول ما اذا كان الشيء الصحيح يتم الان وايضا حول ان كان هناك دائما ما يتطلب المزيد من العمل. ان الموقف من العامل الكلي لا يُفهم جيدا في حالات العمل المرهق، وانما في الطريقة اليومية التي يركز بها المرء بشكل كامل على المهام التي يتعين اكمالها، وفي الانتاجية والكفاءة والفاعلية التي يجب تعزيزها. كيف يتم هذا؟ من خلال طرق التخطيط الفعال، والتفضيل الماهر والتفويض في الوقت المناسب. العمل الكلي، باختصار، هو شكل من النشاط المتواصل والمتوتر والمزدحم، المشكلة الرئيسية فيه معاناة وجودية عميقة متجذرة في انتاج المفيد.
ما هو مزعج في العمل الكلي هو ليس فقط انه يسبب معاناة انسانية غير ضرورية وانما ايضا يقضي على أشكال التأمل المرح المتعلق بسؤالنا والتفكير والاجابة على معظم الاسئلة الاساسية للوجود. لكي نرى كيف يسبب العمل الكلي معاناة انسانية غير ضرورية، لننظر في ظاهرة العمل الكلي كما تظهر في الوعي اليومي لشريكين خياليين في محادثة. هناك في البدء توتر مستمر، شعور كاسح بالضغط المرتبط بفكرة ان هناك شيء يجب عمله، شيء ما دائما يُفترض اني اقوم به حتى الان. وكما يوضح الشريك الثاني في المحادثة، هناك في نفس الوقت السؤال المهم الذي يلوح في الافق: هل هذا أفضل استخدام للوقت؟ الوقت عدو، نادر، يكشف عن قدرة الشخص المحدودة في الفعل، ألم المضايقة، تكاليف الفرص التي لم يُجب عليها.
وباجتماع، الافعال التي يُفترض عملها لكن لن تتم بعد، وتلك التي يجب ان تكون اُنجزت سلفا، وما يُحتمل ان هناك شيء اكثر انتاجية يجب القيام به، والشيء القادم الذي ينتظر الجميع القيام به كلها تعمل مجتمعة كعدو لإزعاج الشخص الذي هو دائما في الخلف في عمل غير مُستكمل الآن.
ثانيا، المرء يشعر بالذنب متى ما كان غير منتج بأقصى ما يمكن. الذنب، في هذه الحالة، هو تعبير عن الفشل لمجاراة او البقاء في قمة الاشياء، في ظل التدفق في المهام بسبب الاهمال المفترض او الخمول النسبي.
اخيرا، ان الحافز المستمر على إنجاز الامور يعني انه مستحيل عمليا، وفق هذه الطريقة في الوجود، ممارسة الاشياء بشكل تام. الرجل الاول يستنتج ان "وجودي" هو "عبء: والذي يعني دورة لامتناهية من عدم الرضا. ان طبيعة عبء العمل الكلي تُعرّف بالفعالية اللامتناهية والمستمرة والمقلقة. القلق حول المستقبل، الذنب المرتبط بامكانية الخمول. وعليه، فان "مهاماتية" العالم مرتبطة بطبيعة عبء العمل الكلي. باختصار، العمل الكلي بالضرورة يسبب المعاناة او dukkha بالتعبير البوذي وهو مصطلح يشير الى الطبيعة غير المقنعة لحياة مليئة بالمعاناة.
العمل الكلي، بالاضافة الى ما يسببه من معاناة، يمنع بلوغ مستويات عليا للواقع. لأن ما يضيع في العمل الكلي هو الايحاء الفني للمحات الخلود الدينية الجميلة، وفرحة الحب النقية، وإحساس الفيلسوف بالدهشة. كل هذه تتطلب صمتا، هدوءاً، رغبة مخلصة للفهم. اذا فُهم المعنى كتفاعل تلقائي للمحدود واللامتناهي، هو بالضبط ما يتجاوز، حاليا، المعرفة بانشغالاتنا وواجباتنا الروتينية، يمكّننا لتكون لدينا تجربة مباشرة بما هو أكبر من أنفسنا، عندئذ ما يضيع في عالم العمل الكلي هو بالضبط إمكانية تجربتنا للمعنى. ما يضيع هو الذي يبحث لماذا نحن هنا.
***
حاتم حميد محسن