أقلام فكرية

بهلولي جيهان: الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي: سيادة أم عبودية جديدة؟

مفتتح إشكالي: في ظل التطور السريع الذي يشهده العالم اليوم في مجال التكنولوجيا يُبرز الذكاء الاصطناعي كقوة جديدة تعيد تشكيل ملامح حياتنا اليومية، باعتباره أحد أبرز إنجازات العصر الحديث. فلم يعد مجرد ابتكار تقني محدود، بل أضحى قوة مؤثرة في مختلف الميادين: من التعليم والصحة إلى السياسة والاقتصاد، بل وحتى في العلاقات الاجتماعية والثقافية. لقد بات شريكًا يُعول عليه في التفكير، والإنتاج، واتخاذ القرار، مُمكنًّا الإنسان من إنجاز أعمال معقدة بسرعة ودقة تفوق قدراته الطبيعية. غير أنّ هذا التطور المذهل يطرح سؤالاً فلسفيًا عميقًا: هل ما يزال الإنسان سيّد هذه التقنية ومالك زمانها، أم انه ماضٍ نحو شكل جديد من العبودية أمام ما أبدعته يداه؟

1.الإنسان في قلب العاصفة التكنولوجية:

مع التطور الرقمي السريع الذي نعيشه اليوم، أصبح الذكاء الاصطناعي واحدًا من أهم إنجازات الإنسان. فهو يمثل نقطة تحول كبيرة في تاريخ البشرية، تشبه في تأثيرها اختراع الطباعة أو الهاتف أو الحاسوب. ولم يعد مجرد أداة نستعملها فقط، بل تحول إلى قوة تؤثر في حياتنا كلها، من التعليم والصحة والثقافة، إلى الاقتصاد وحتى في علاقاتنا اليومية غير أن هذا الحضور الهائل يطرح أسئلة جوهرية من بينها: هل يبقى الإنسان سيّد هذه القوة الجديدة أم يتحول إلى عبد لها في شكل جديد من أشكال التبعية؟ خصوصًا وأن إنسان اليوم يستعين بهذا الاكتشاف المُبهر والمبتدع ولا يستطيع العيش بعيدًا بمعزل عن هذه المنظومة، فالذكاء الاصطناعي بذلك لم يعد مجرد برامج حسابية معقدة إنما أصبح جزءًا من حياتنا اليومية نراه في الهواتف الذكية ووسائل النقل، والمستشفيات، والمدارس بل وحتى في النقاشات التي تُصنع في الفضاء العام وتؤثر في الرأي العام وصناعة القرار

لكن من جهة أخرى نرى بأن ليس كل تأثير للتكنولوجيا دليلاً على فقدان الإنسان لسيادته فقد عرف التاريخ قفزات نوعية متشابهة مع اختراعات كالكهرباء مثلاً أو الانترنيت، ومع ذلك استطاع الإنسان التكيف معها دون أن يفقد حريته تمامًا.

2.الذكاء الاصطناعي: قوة محرّرة أم قيود جديدة؟

 نجد بأن لذكاء الاصطناعي أحيانًا يُنظر إليه كقوة محرِّرة ، السؤال هنا لماذا ؟ : ذلك لأنه يفتح أمام الإنسان آفاقًا جديدة للمعرفة والإبداع والإنتاج إذ أصبح بإمكانه معالجة كميات هائلة من المعلومات ،واستخراج أنماط ودلالات لم يكن العقل البشري ليستطيع الوصول إليها  بالسرعة نفسها، حيث يتيح للطلبة والباحثين إمكانية الوصول إلى مصادر علمية ضخمة بضغطة زر ويسهل على الأطباء تشخيص مرضاهم بدقة أكبر وكذا يمكن المؤسسات من تحسين آداها وتنظيم مواردها بشكل أكثر فعالية و استساغة بهذا المعنى يبدو وكأنه يمنح الإنسان "أجنحة معرفية" تجعله ينجز في ساعات ما كان يستغرق منه سنوات طويلة .

لكن في المقابل هذا الوجه المشرق يخفي إشكالية عميقة وهي أن هذه المعرفة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي قد لا تكون متاحة للجميع بالقدر نفسه فالشركات الكبرى مثلاً التي تحتكر التقنيات والخوارزميات العملاقة، تتحكم بشكل غير مباشر في تدفق المعرفة والمعلومة وتفرض على المستخدمين شروطًا وأنظمة تجعلهم لا يستطيعون الاستغناء عنها( مثلا عند استعمالك تطبيقًا أو منصة انت توافق غالبًا من غير وعي على شروط طويلة ومعقدة هذه الشروط  تمنح الشركة الحق في جمع بياناتك صورك ،إجاباتك… بعد ذلك يتم استخدام هذه البيانات ليوجه لك اعلانات ومحتويات تناسب اهتمامك ومع الوقت تصبح مدمنًا على المنصة ويصعب عليك تركها لأن فيها أصدقائك اخبارك وحتى عملك، وهنا نلاحظ أن الشركة وضعت شروطًا لجعلك أكثر ارتباطًا واعتمادًا عليها حتى وإن لم تكن تريد ذلك في البداية).وهنا يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة تحرير إلى نوع من القيود الجديدة حيث يجد الإنسان نفسه مستفيدًا من التقدم لكنه في الوقت نفسه خاضعًا لسلطة الشركات التي تملك هذه التكنولوجيا.

غير أن هذا التصور التشاؤمي يغفل جانبًا مهما: الذكاء الاصطناعي ليس قوة مستقلة بل هو اداة يصنعها الإنسان. بمعنى أن الخطر لا يكمن في التقنية ذاتها، بل في غياب سياسات عادلة لتوزيعها وتنظيم استخدامها. فكما أن الكهرباء لم تكن شرًا مطلقا بل استخدمت للإنارة والطب والصناعة يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح عامل تحرر لا عبودية شرط أن يُدار بشكل ديمقراطي وشفاف.

3.السيادة المزعومة: حين يتراجع القرار البشري:

 الإنسان اليوم يعيش وهم السيادة. فعندما يفتح هاتفه الذكي ويجد أمامه مقترحات تناسب اهتماماته وميولاته، يظن أنه اختار بحرية. لكن الحقيقة أن الخوارزميات هي التي سبقت إلى دراسة سلوكه وتحليل بياناته، ثم وجهته إلى محتوى محدد مسبقًا. وهذا يظهر بشكل أوضح في التسوق الإلكتروني، حيث تعرض عليه منتجات لم يكن يفكر فيها أصلًا، لكنه يقتنيها لأنه تأثر بإعلانات مخفية أو باقتراحات صممت خصيصًا لتوجيهه. في هذه الحالة يبدو القرار البشري وكأنه نتيجة طبيعية لاختياره، بينما في العمق هو مجرد استجابة لتأثيرات غير مرئية تديرها شركات كبرى تمتلك السيطرة على تدفق المعلومات.

 وهنا تكمن المفارقة: فالإنسان يعتقد أنه صاحب القرار وأنه يمارس حريته، لكنه في الواقع يعيش حرية شكلية فقط، أما الحرية الحقيقية تتراجع مع كل خطوة تعتمد فيها إرادته على خوارزميات مبرمجة مسبقًا. وهذا ما يفتح نقاشًا فلسفيًا عميقًا: إذا كان القرار البشري يتشكل تحت ضغط هذه المنظومات الذكية، فهل يمكن أن نتحدث حقًا عن الحرية؟ أم أن الحرية أصبحت مجرد وهم يتغذى على شعور زائف بالسيادة؟

على خلاف ذلك الذكاء الاصطناعي وإن بدا أداة مساعدة، إلا أنه يرسّخ نوعًا من "القيود الناعمة"، حيث لا يُجبر الإنسان بالقوة، بل يُدفع بهدوء نحو اختيارات معينة حتى يظن أنه هو من أرادها. وهذا أخطر من القيود المباشرة، لأنه يقيد العقل والإرادة من الداخل، لا من الخارج.

مع ذلك فمن الظلم القول أن الإنسان مجرد "دمية" في يد الخوارزميات. فالإنسان يمتلك قدرة على الوعي والنقد والمراجعة. صحيح أن هذه القدرة تتراجع مع الإدمان الرقمي لكنها لا تلغى تمامًا. والتاريخ ملئ بحركات مقاومة للتقنيات المهيمنة: من رفض بعض المجتمعات للإعلانات المضللة إلى ظهور مبادرات "الانعتاق الرقمي" التي تدعو للحد من استخدام الهواتف الذكية. إذن، لست السيادة المزعومة قدرًا محتوما بل تحديًا يتطلب وعيًا جماعيًا.

4.العبودية الجديدة: تسليم الإرادة طوعًا

في الماضي كانت العبودية قسرية وواضحة: الشخص يُجبر على العمل أو الطاعة بالقوة. أما اليوم فالأمر أصبح أكثر دقة وذكاء لأنه يعتمد على الإغراء والراحة بدل الإكراه. الإنسان المعاصر يسلم جزءًا من إرادته للآلة من تلقاء نفسه دون أن يشعر بأنه يفقد شيئًا من حريته.

فالهواتف الذكية على سبيل المثال تقدم لنا كل شيء بسرعة وسهولة: التنقل عبر الخرائط الذكية طلب الطعام، التسوق، الترجمة حتى كتابة الرسائل والأبحاث. كل هذه التسهيلات تجعل الإنسان يعتمد على التقنية في كل خطوة تقريبًا. ومع مرور الوقت يفقد جزءًا من مهاراته العقلية التقليدية: التفكير النقدي القدرة على التخطيط للمستقبل وحتى الإبداع الشخصي…وغيرها لأن الذكاء الاصطناعي يقوم بالجزء الأكبر من العمل بدلاً عنه.

 ومن هنا يظهر مفهوم "العبودية الطوعية": إذ لا يُجبر الإنسان على الخضوع لكنه يختار الاستسلام، مستمتعًا بما تقدمه له التكنولوجيا من راحة وسرعة. وبكرور الوقت يتحول هذا الاختيار الطوعي إلى عادة وعندها تصبح إرادة الإنسان مقيدة جزئيا رغم ظنه بأنه حر.

 من ناحية أخرى صحيح أن التكنولوجيا تمنح الإنسان وقتًا وراحة أكبر، لكنها في الوقت نفسه تغير طريقة تفكيره وسلوكه وربما تجعل من العقل البشري أقل نشاطًا في اتخاذ القرارات. إذ أن المشكلة ليست في التقنية نفسها بل في اعتماد الإنسان الكامل عليها دون وعي أو توازن. وهذا النوع من العبودية أخطر من العبودية القديمة لأنه يبدأ من الداخل حيث يقبل الإنسان القيود دون أن يشعر بأنها قيود على حريته.

5.نقد وهم التقدم: هل كان كل ما هو جديد أفضل؟

في خطاب الكثير من السياسيين ورجال الأعمال يُقدَّم الذكاء الاصطناعي باعتباره تقدمًا لا يمكن إيقافه ، ويظهر ذلك في تصريحات فلاديمير بوتين (رئيس روسيا) الذي يرى أن من يسيطر على هذه التكنولوجيا قد يحكم العالم، وفي مواقف إيلون ماسك (الرئيس التنفيذي لشركتي Tesla وSpaceX ومؤسس XAI) الذي يعتبرها أعظم قوة يمكن أن تكون إما نعمة أو نقمة على البشرية، كما يؤكد ساتيا ناديلّا (الرئيس التنفيذي لشركة Microsoft) أنها التكنولوجيا التي تُعرّف جيلنا، ويرى مايكل ديل (الرئيس التنفيذي لشركة Dell) أنها ستجعل الإنسان أكثر فعالية دون أن تستبدله. أما جنسن هوانغ (الرئيس التنفيذي لشركة NVIDIA) فيصفها ببداية ثورة صناعية جديدة، في حين يحذّر إريك شميدت (الرئيس التنفيذي السابق لشركة Google) من أن تجاهلها يعني السقوط في عالم النسيان، بينما يشبّهها أندرو نج (مؤسس Coursera وGoogle Brain) بالكهرباء الجديدة التي ستنتشر في كل المجالات وتغير العالم.... وغيرهم

لكن التاريخ يعلمنا أن ليس كل تقدم تقني هو تقدم إنساني. فاختراع الطاقة النووية مثلًا أتاح إنتاج الكهرباء لكنه قاد أيضًا إلى قنابل هيروشيما وناغازاكي. بالمثل، قد يصبح الذكاء الاصطناعي أداة تعميق للفوارق الاجتماعية: من يملك التقنية يصبح أكثر غنى ونفوذًا، ومن يفتقدها يغرق في التبعية.

وهذا ما نراه اليوم بين الشمال والجنوب: دول متقدمة تستثمر مليارات في الذكاء الاصطناعي، بينما دول نامية بالكاد تمتلك البنية الرقمية الأساسية. هكذا نجد نوعًا من التجدد الاستعماري لكن بوجه رقمي.

 مع ذلك، لا ينبغي الوقوع في نزعة "رفض كل جديد". فالتقدم التكنولوجي في ذاته ليس شرًا، بل هو محايد أخلاقيًا (كما يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في التعليم والطب مثلا يمكن أن يستغل في التجسس والتلاعب بالمعلومات فهو سلاح ذو حدين وقيمته تعتمد على كيفية استخدام الإنسان له) الأخطر في توجيهه الخاطئ. لذلك، بدل أن نسأل: هل الذكاء الاصطناعي تقدم أم لا؟ علينا أن نسأل: كيف نجعله تقدمًا حقيقيًا يخدم العدالة الاجتماعية؟ هنا يظهر دور السياسات العامة والتعاون الدولي في تضييق الفجوة الرقمية.

6.الإنسان مرآة التكنولوجيا: انعكاس الذات أم تشويهها؟

يرى بعض الفلاسفة مثل مارشال ماكلوهان (فيلسوف كندي "نبي العصر الإلكتروني" درس تأثير وسائل الإعلام والتكنولوجيا على المجتمع) و جيل دولوز(فيلسوف فرنسي تناول العلاقة بين التقنية و المجتمع وكيف تشكل أدوات التكنولوجيا تفكير الإنسان وسلوكه) أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد آلة، بل مرآة تعكس الإنسان وقيمه. إذا كانت قيم المجتمع مثل العدالة والمساواة والحرية، فإن التطبيقات والخوارزميات تعكس هذه القيم بشكل إيجابي. مثال: تطبيقات التعليم الذكية تقدم دعمًا لكل طالب حسب مستواه، فتساعده على التعلم بشكل متوازن وعادل.

أما إذا كانت القيم مادية أو منحرفة فإن الذكاء الاصطناعي سيعكسها بدوره كما أشار لذلك هيغل (وهو فيلسوف ألماني يرى أن التاريخ والحياة الاجتماعية تعكس الصراعات بين القوى والمبادئ وأن السلطة تؤثر مباشرة في الواقع المادي (. ويتجلى ذلك على سبيل المثال: في برامج التوظيف التي قد تمنح فرصًا أقل لبعض الفئات بسبب بيانات سابقة، ومنصات التواصل الاجتماعي التي توجه المستخدمين نحو محتوى محدد يخدم بدوره مصالح الشركات، وهكذا تبدو التكنولوجيا وكأنها مرآة للإنسان، غير أنها في الوقت نفسه تفرض منطقًا خفيًا على الأفراد.

لكن رغم اعتبار الذكاء الاصطناعي مرآة للإنسان، إلا أن قدراته على التعلم الذاتي قد تجعله يتجاوز ما وضعه الإنسان فيه، فيخلق سلوكيات جديدة أو تأثيرات لم يكن متوقعًا، ما يجعل مسؤولية الفرد والمجتمع أكبر في مراقبة توجيه هذه الأدوات.

7.الأخلاقيات كشرط للسيادة الحقيقية

لكي تظل التكنولوجيا أداة تفيد الإنسان، يجب أن تُصمَّم وفق قيم أخلاقية واضحة. فكرة "الأخلاقيات حسب التصميم" )والتي تعني أن تُدمج المبادئ الأخلاقية منذ البداية في البرمجيات والأنظمة الذكية(، مثل حماية خصوصية المستخدمين، وضمان الشفافية في كيفية عمل الأنظمة، وتوفير فرص متساوية للوصول إلى المعلومات والخدمات. بهذه الطريقة، لا تصبح التكنولوجيا مجرد أدوات معقدة، بل أداة تخدم البشر بشكل عادل ومسؤول.

على سبيل المثال: مثلاً نجد شركة غوغل تحاول تحسين نتائج البحث لتكون أكثر عدلاً وتقليل التمييز بين المستخدمين، لكن ترتيب النتائج غالبًا ما يخدم مصالحها الاقتصادية. في مجال الصحة، تستخدم خوارزميات لتشخيص الأمراض، وقد يحصل من يملك المال على أفضل الخدمات، بينما تُهمل الفئات الأخرى. أما في منصات التواصل الاجتماعي، فالخوارزميات تحدد المحتوى الذي يراه المستخدم، فيظن أنه يختار بحرية، لكنه في الواقع يتبع ما اختارته الآلة.

كذلك بعض الفلاسفة الذين يمكن ربطهم بهذا المفهوم نجد إيمانويل كانط (فيلسوف ألماني يرى أن الأخلاق يجب أن تكون مبدأ عالمي يوجّه أفعال الإنسان)، وجون رولز (فيلسوف أمريكي درس العدالة الاجتماعية والمساواة)، حيث يمكن تطبيق مبادئهم على تصميم خوارزميات عادلة وأخلاقية.

لكن مع هذا حتى مع المبادرات الأخلاقية، تبقى الشركات مهتمة بالربح أكثر من الالتزام بالقيم، ما يجعل الأخلاقيات شعارات أحيانًا. لكن الوعي العالمي يتزايد، والضغط الأكاديمي والسياسي يفرض على الشركات الشفافية، ما يمنح الأمل في تحقيق توازن بين التقنية والقيم الإنسانية.

8.المفارقة الفلسفية: سيادة أم عبودية؟

الذكاء الاصطناعي يمنح الإنسان قوة هائلة لمعالجة معلومات ضخمة واتخاذ قرارات دقيقة بسرعة كبيرة، لكنه قد يصبح قيدًا إذا اعتمد عليه الإنسان في كل شيء، من التخطيط والتنقل والشراء والتواصل إلى اتخاذ القرارات الفكرية.

مثال: استخدام خرائط غوغل يقلل مهارات التخطيط الذهني، وبرامج مثل ChatGPT تقلل التفكير النقدي والإبداعي، ومنصات التواصل توجه ما نراه من محتوى، رغم شعورنا بالحرية.

 بعض الفلاسفة المرتبطين بهذه الفكرة:

جان بول سارتر (فيلسوف فرنسي يرى أن الحرية الحقيقية تأتي مع وعي الإنسان بمسؤولية اختياراته)، وميشيل فوكو (فيلسوف فرنسي درس العلاقة بين السلطة والمعرفة وكيف تؤثر المؤسسات على وعي الأفراد)، إذ يساعدنا التفكير في آرائهم على فهم كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح أداة تحكم أو تعزيز للحرية.

من جانب آخر الخيار ليس دائمًا بين سيادة مطلقة أو عبودية مطلقة؛ غالبًا يعيش الإنسان حالة وسطية، يستفيد من التكنولوجيا ويخسر استقلاليته أو خصوصيته. السؤال الفلسفي: كيف نوازن بين الاستفادة وحماية حرية الإنسان ووعيه؟ المسؤولية تقع على الفرد والمجتمع لضمان أن القوة التي تمنحها التكنولوجيا لا تتحول إلى قيد خفي.

9. مسؤولية الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي: بين الحرية والسيطرة

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل مرآة تعكس الإنسان وقيمه ومبادئه. كل خوارزمية وكل نظام ذكي يعكس في النهاية طريقة تفكير المجتمع وما يقدّره من قيم، سواء كانت الحرية، العدالة، المساواة، أو الربح والمصلحة الفردية. لذلك يبقى القرار النهائي للإنسان: هل سيستغل هذه التكنولوجيا لتعزيز الحرية والإبداع، أم سيستسلم لها تدريجيًا ويصبح تابعًا لها دون وعي كامل؟ هذا السؤال يشكل جوهر مسؤولية الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي، لأنه يتعلق بكيفية التعامل مع قوة تكنولوجية هائلة قد تكون محررة إذا استخدمت بحكمة، أو قيودًا خفية إذا تركت دون مراقبة.

السيادة الحقيقية لا تتحقق بمجرد امتلاك أدوات ذكية، بل تأتي من التحكم فيها أخلاقيًا وفكريًا، أي أن الإنسان يحدد المبادئ والقيم التي توجه عملها، ويتأكد من أنها لا تُستغل لأهداف ضيقة أو غير عادلة. يشمل ذلك الشفافية في كيفية اتخاذ القرارات، حماية الخصوصية، وضمان المساواة وعدم التمييز في جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، سواء في التعليم أو الصحة أو العمل أو الإعلام. كما يجب أن يكون هناك مساءلة مستمرة: أي خطأ أو تأثير سلبي ناتج عن الأنظمة الذكية يجب أن يكون هناك جهة مسؤولة يمكن محاسبتها، وهو ما يربط المسؤولية الفردية بالمجتمع والمؤسسات.

المستقبل سيكون انعكاسًا لقدرة البشر على ضبط أنفسهم والتحكم في أدواتهم التكنولوجية، لا انعكاسًا لقدرة الآلة نفسها. إذا أحسن الإنسان استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يصبح وسيلة لتعزيز الحرية والإبداع، وتوسيع نطاق التفكير والخيال البشري، كما يحدث في مجالات البحث العلمي والطب والفن، حيث يساهم الذكاء الاصطناعي في تحقيق نتائج لم يكن العقل البشري يصل إليها بمفرده. أما إذا ترك الإنسان التكنولوجيا لتتحكم فيه، كما يحذر يوفال نوح هراري (مؤرخ وفيلسوف معاصر يكتب عن تأثير التكنولوجيا على مستقبل الإنسان)، فقد تتحول هذه الأنظمة إلى أدوات مراقبة وتحكم، توجّه سلوكيات الأفراد وتفرض منطقًا خفيًا على المجتمعات دون وعيها.

باختصار أن مسؤولية الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي ليست مجرد إدارة التكنولوجيا، بل وعي مستمر بالقيم الأخلاقية، نقد مستمر لما تفعله هذه الأدوات، ومساءلة لكل تأثير قد يمس الحرية أو العدالة. إنها دعوة للحفاظ على استقلالية الإنسان وفكره، وتحويل الذكاء الاصطناعي من مرآة تعكس واقعنا فقط، إلى أداة تساعدنا على بناء مستقبل أفضل وأكثر حرية وعدالة.

10. مسؤولية الإنسان تجاه تبعات الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي يتيح قدرات هائلة للإنسان، لكنه في الوقت نفسه يخلق نتائج وتأثيرات قد تكون غير مقصودة أو سلبية. السؤال الفلسفي المهم هنا: هل الإنسان يتحمل مسؤولية هذه النتائج؟ الجواب يكاد يكون بالإيجاب، لأن كل نظام ذكي تم تصميمه واستخدامه بواسطة البشر، وما يقوم به من قرارات أو تأثيرات هو انعكاس مباشر للاختيارات البشرية التي صممت هذا النظام أو أشرفت عليه. بمعنى آخر، الذكاء الاصطناعي لا يعمل بمعزل عن الإنسان؛ إنه أداة، وإن كانت معقدة ومستقلة جزئيًا، إلا أن الإنسان هو المسؤول الأول عن أهدافه وكيفية استخدامه.

على سبيل المثال، إذا استخدمت خوارزميات التوظيف الذكية بيانات منحازة تاريخيًا، ونتيجة لذلك لم يحصل بعض المرشحين على فرص عادلة، فالخطأ ليس للآلة نفسها، بل للبشر الذين صمموها ولم يضبطوا المعايير الأخلاقية. نفس الأمر يحدث في وسائل الإعلام الرقمية؛ إذا أُنتج محتوى موجه أو أخبارًا مزيفة بواسطة الذكاء الاصطناعي، فإن المسؤولية تقع على من يتحكم في البرمجة والمحتوى، وليس على النظام وحده.

ومع ذلك، هناك تعقيد إضافي: بعض الأنظمة الذكية قادرة على التعلم الذاتي واتخاذ قرارات لم يتوقعها مصمموها، ما يثير تساؤلًا: هل يمكن تحميل الإنسان المسؤولية الكاملة عن نتائج لم يكن قد خطط لها؟ الفلاسفة مثل هيلاري بوتنام (فيلسوف أمريكي تناول العلاقة بين العقل والآلة) يشيرون إلى أن المسؤولية تبقى بشرية طالما الإنسان هو من أتاح للآلة المجال للعمل واتخذ القرار النهائي حول استخدامها، حتى لو ظهرت نتائج غير متوقعة.

بمعنى أن الإنسان يتحمل المسؤولية أخلاقيًا وقانونيًا تبعات الذكاء الاصطناعي، لأنه هو من صممه، ووجهه، واختار استخدامه. وهذا يجعل وعي الإنسان بالقيم الأخلاقية، والرقابة المستمرة، والمساءلة الدائمة، أمرًا حاسمًا لضمان أن التكنولوجيا لا تتحول إلى أداة ضرر، بل تبقى وسيلة لتعزيز الحرية والإبداع والخير العام.

خاتمة

بعد ما سبق ذكره، يُتضح لنا أن علاقة الإنسان بالذكاء الاصطناعي ليست علاقة أحادية، بل هي جدلية تجمع بين الفرص والمخاطر.

فالذكاء الاصطناعي قد يكون أداةً فعالة لتحسين حياتنا، وتطوير قدراتنا، وحل مشكلات عجزنا عنها لقرون.

كما يفتح أمامنا آفاقًا جديدة في ميادين العلم والطب والتعليم والفن، مما يوسّع حدود الخيال والإبداع الإنساني.

لكن في المقابل، قد يتحول إلى أداة للرقابة والتحكم، تهدد الحرية الفردية وتعمّق الفوارق الاجتماعية.

ولهذا، فالتحدي الحقيقي لا يكمن في الآلة ذاتها، بل في طريقة إدارتنا لها وتوجيهها.

إن الحوكمة الرشيدة والأطر الأخلاقية الصارمة تبقى السبيل الوحيد لتجنب الانزلاق نحو "عبودية جديدة".

فالمسؤولية إذن تقع على عاتق الإنسان، أفرادًا ومؤسسات، لضمان بقاء الذكاء الاصطناعي في خدمة القيم الإنسانية.

والمستقبل سيُبنى على قراراتنا اليوم، لا على قدرات الخوارزميات وحدها.

فإما أن نستخدم الذكاء الاصطناعي لتعزيز الحرية والسيادة،

وإما أن نتركه يسلبنا استقلاليتنا، فنصبح أسرى أدوات صنعناها بأيدينا.

فهل سيكون المستقبل شاهدًا على سيادة الإنسان على التقنية، أم على خضوعه لها؟

***

بهلولي جيهان

قسم الفلسفة/جامعة باجي مختارـ عنابة ـ

في المثقف اليوم