أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: أوجه التشابه بين فيزياء الكوانتم والفلسفة الهندية

ينظر بونيت كومار أستاذ الفيزياء المساعد في جامعة لكناو الهندية ومعه استاذ الفلسفة سانجيف كومار فارشتي في قضية العالم المتشابك. الاستكشافات المتعمقة في عالم الكوانتم تكشف أوجه تشابه ملفتة بين ظواهر ما دون الذرة والفلسفة الهندية. وبينما كل واحدة منهما تقدم منظورا متميزا، لكنهما كلاهما ينسجان قصة تتحدى الحدود التقليدية وتعيدان تعريف فهمنا للواقع.
فيزياء الكوانتم وما تتضمنه من مبادئ التراكب او الوجود المتزامن superposition والتشابك entanglement وتأثير المراقب the observer effect، عطّلت المفاهيم الكلاسيكية للكون الحتمي. رواد الكوانتم أمثال هايزنبيرغ و شرود نجر و بور أحدثوا ثورة في العلم عبر إدخال اللايقين و المراقب كمظاهر جوهرية للواقع. لكن الأسئلة لازالت قائمة. فمثلا، هل الملاحظة تكشف فقط عن عالم الكوانتم، ام انها تشكّله بشكل نشط – وكيف؟ هذا اللغز يسلط الضوء على علاقة معقدة بين الوعي وميكانيكا الكوانتم، مثيرا حوارا يتجاوز التحقيق العلمي التقليدي.
مقابل هذه الخلفية، نجد بعض الأفكار الأساسية في الفلسفة الهندية توفر رؤى عميقة. تقاليد مثل فيدانتا Vedanta و سامخيا Samkhya استكشفت لوقت طويل الترابط في كل الأشياء وافترضت الوعي كجوهر للواقع، لذا فان هذه الأطر يتردد صداها بعمق في مواضيع فيزياء الكوانتم، وبهذا تردم الفجوة بين الحكمة القديمة والعلم الحديث.
حدود الكوانتم
ميكانيكا الكوانتم هي فرع من الفيزياء تستطلع سلوك المادة والطاقة في أصغر حجم، مثل الذرات وجسيمات ما دون الذرة. انها تمثل تحولا كبيرا من الفيزياء الكلاسيكية التي لاتزال تصف بدقة حركة الاجسام الكبيرة مثل كرات البليارد او الكواكب. احدى المضامين العميقة لميكانيكا الكوانتم هو تحدّيها لفهمنا للواقع. فمثلا، جسيمات الموجة توجد في وجود متزامن a superposition of states(1)الى ان تُلاحظ ،الامر الذي يجعل المراقبة عاملا حاسما في النتائج التجريبية، لذلك، يُعتقد ان لا وجود لحالة معينة من وجود كوانتمي حتى يُقاس في تلك الحالة. هذا يتحدى المفاهيم التقليدية للواقع الموضوعي، ويدفعنا لإعادة النظر بماهية الواقع. وبالرغم من طبيعتها المضادة للحدس، اثبتت ميكانيكا الكوانتم وبشكل ملحوظ انها ناجحة في وصف سلوك المادة والطاقة في حجم ميكروسكوبي، لذا هي ليست فقط أعادت تشكيل فهمنا للكون وانما أيضا عجّلت من وتيرة التقدم في العلم والتكنلوجيا بدءً من الحوسبة الكوانتمية الى التصوير الطبي، وصولا الى الثنائيات في الكومبيوتر التي لن تعمل بدون تأثير النفق الكوانتمي. ونظرا لكونها حجر الزاوية في الفيزياء الحديثة، تستمر ميكانيكا الكوانتم في قيادة الاستكشافات.
الفلسفة الهندية: الرؤية غير المزدوجة للواقع
تُعتبر الفلسفة الهندية ذات تقاليد عميقة وقديمة تضم عدة مدارس مختلفة من الفكر. ورغم ان هذه المدارس لها افكارها الخاصة بها حول العالم، والمعرفة والحياة، لكنها في الغالب تتفق على مسائل أساسية. العديد منها يتحدث حول اللاازدواجية او "الواحدية" – الترابط بين جميع الأشياء – او حول أهمية الوعي في فهم الواقع. هذه الأفكار المشتركة صاغت رحلة الهنود الفكرية والروحية لآلاف السنين. احدى أهم الأفكار في الفلسفة الهندية تأتي من نص قديم يُعرف بـ ادفيتا فيدانتا Advaita Vedanta والذي هو ذاته يرتكز على تعاليم الاوبنشاد، والذي طُور لاحقا من جانب القس آدي شانكار اشارا. طبقا لمدرسة ادفيتا، الحقيقة النهائية (براهما) لامتناهي، أبدي، ووراء الزمان والمكان والتغيير، ليس له شكل او صفات وهو مصدر كل شيء. كذلك، الروح الفردية (اتمان) قيل انها ليست منفصلة عن الواقع، بل على عكس ذلك، ادفيتا فيدانتا يفيد بان الروح هي الواقع النهائي – بما يعني ان الذات الحقيقية داخل كل شخص هي نفس الأشياء كواقع كوني نهائي. هذه الحقيقة، مختبئة عنا بواسطة الوهم (مايا) – والذي هو ليس زيفا تاما وانما قوة تجعل الواقع يبدو متعددا. وبسبب هذا، نحن نرى اختلافات، تغييرات، وانفصالات في العالم حتى عندما يبدو كل شيء هو واحد. التحرير (موكشا) يأتي عندما يدرك الناس هذه الحقيقة غير المزدوجة ويفهمون ان ذاتهم الحقيقية هي واقع نهائي. هذا الادراك ينهي دورة الموت وإعادة الولادة ويقود الى حرية وسلام أبديين .
مقابل عدم ثنائية ادفيتا، تعرض مدرسة سامخيا رؤية ثنائية للواقع. انها تتحدث عن عنصرين رئيسيين: الطبيعة او المادة (براكريتي)، والوعي الخالص (بوروشا). المادة لها توازن (ستافا)، والنشاط (راجاس)، والجمود (تاماس)، وهي مسؤولة عن كل التجارب المادية والحسية. من جهة أخرى، الوعي في حالته الاصلية هو صامت، أبدي، ويراقب كل شيء بدون الانخراط فيه. طبقا لسامكايا، تحدث معاناتنا لأن الوعي ينسى طبيعته الحقيقية ويبدأ في التعرف على العالم المتغير للمادة. التحرير(kaivalya) اذن يحدث عندما يدرك الوعي بانه منفصل عن المادة ويتوقف عن كونه مرتبط بها. لذا على الرغم من ان (samkhya) لا تؤمن بعدم ثنائية Avaita، انها أيضا ترى الوعي كشيء مركزي، وتعتقد ان الحرية الحقيقية تأتي من الوعي الذاتي.
البوذية، وخاصة الـ mahayana، تعرض فكرة عميقة أخرى، وهي الفراغ emptiness – وتعني خصيصا ان لا شيء له طبيعة ثابتة ومستقلة: كل شيء نراه وكل تجربة يوجدان فقط بسبب شيء آخر، وكل ذلك يعتمد على الأسباب والظروف. هذه الفكرة تسمى النشأة التابعة "dependent origination". لا شيء يوجد بحد ذاته. على سبيل المثال، الشجرة توجد فقط بسبب البذرة، الماء، ضوء الشمس، والعديد من العوامل الأخرى. وفق هذه النظرة، حتى فكرة الذات الدائمة هي زائفة. بل ان كل شيء يتغير ومترابط، وان ادراك هذا الفراغ او غياب الوجود المتأصل يقود الى الحكمة والعطف والتحرر من الرغبات السخيفة.
طبقا للبوذية، يأتي التنوير عندما نبتعد عن الايغو والرغبة ونفهم ان كل شيء هو جزء من كُل اكبر.
ورغم ان بوذية ادفيتا فيدانتا، وسامكايا وماهايانا تختلف بطرق عميقة، لكنها جميعها تدعونا للنظر الى ما وراء السطح والتحقق من النظرة المادية بان العالم صُنع فقط من شيء مادي. بدلا من ذلك، هي تركز على الوعي والترابط، وهي الفكرة بان العالم كما نراه هو ليس الحقيقة الكاملة وبهذا الادراك سيتمكن الناس من الحصول على السلام والتحرر من المعاناة.
وظيفة الموجة
في ميكانيكا الكوانتم، يوصف نظام الكوانتم المُلاحظ او المُقاس بوسيلة مادية تسمى وظيفة الموجة wave function. وظيفة الموجة تصف جميع النتائج الممكنة التي يمكن للنظام الكوانتمي مراقبتها قبل عرضها، مثل أين ينتهي الالكترون على الشاشة. مع ذلك، هذه الاحتمالات تبقى غير مُدركة او "احتمالية" الى ان يلاحظ شخص ما النظام. فقط في تلك اللحظة تظهر نتيجة معينة. هذه العملية تسمى انهيار الدالة الموجية "wave function collapse".
هذه الفكرة تحمل تشابها مع مفهوم الـ مايا في ادفيتا فيدانتا. طبقا لهذه الفلسفة، الوهم يجعل العالم يبدو مليئا بالاختلافات والحركة والانفصال. العالم الذي نراه ونتفاعل معه ليس زائفا تماما، وانما هو يخفي طبيعة الوجود الحقيقية والغير مقسمة. ولكن مثلما تنهار وظيفة الموجة الى حالة محددة عند ملاحظة الوجود الكوانتمي، كذلك يختفي الوهم عندما يحصل الشخص على المعرفة. وفي كلتا الحالتين – سواء في الفيزياء او في مسار الصحوة الروحية – يلعب المراقب دورا محوريا.
تأثير المراقب هو أحد الأجزاء المحيرة في نظرية الكوانتم. انه يشير الى ان فعل مراقبة النظام الكوانتمي يغيّر سلوكه. بعض تفسيرات الكوانتم مثل تفسير كوبنهان او رؤى واغنر تقول ان الوعي (الملاحظة الواعية) تجعل وظيفة الموجة تنهار الى واقع منفرد. هذا يعني ان المراقب ليس فقط يراقب الواقع وانما في الحقيقة يحدده من خلال فعل الملاحظة. هذه الفكرة يمكن ربطها بتعاليم ادفيتا فيدانتا بان الوعي لم يُخلق بواسطة الدماغ وانما هو القاعدة الأساسية لكل الوجود (بما في ذلك الادمغة). لذا فان كل من فيزياء الكوانتم والفلسفة الهندية يقترحان ان الواقع لا ينتظر هناك لكي يُرى بواسطة الوعي وانما هو يوجد من خلاله .(الفيزيائي وارنر هايزنبيرغ رأى هذا الربط أيضا، ملاحظاً ان الابانشاد تعترف بان الوعي وليس المادة هو مصدر كل شيء).
فكرة أخرى مثيرة في فيزياء الكوانتم هي التشابك. عندما تشتبك اثنتان من الموجة – الجسيم، يبقيان مترابطين بصرف النظر عن مدى البعد بينهما، وان تغيير أحدهما سيغيّر الآخر حالا. هذا يبدو في تضاد مع نظرية اينشتاين في النسبية الخاصة، التي تقول لا شيء يمكن ان يؤثر على شيء آخر بأسرع من سرعة الضوء. التشابك يبيّن ان الكون مترابط بعمق بطرق لا نفهمها. هذا مرة أخرى يعكس أفكار الفلسفة الهندية، خاصة البوذية وفيدانتا. التعاليم البوذية في النشأة التابعة تقول ان لا شيء يوجد بحد ذاته، وكل شيء يوجد من خلال العلاقات. ونفس الشيء، تقول تعاليم فيدانتا ان كل شيء هو جزء من واقع احادي مترابط. كلا الرؤيتين ترفضان الانفصال النهائي، وتقترحان ان كل الأشياء هي في الحقيقة جزء من كُل أكبر مترابط – تماما مثل الجسيمات المتشابكة كما لو انها واقع واحد مترابط حتى عبر المسافات البعيدة جدا.
نيل بور، Niel Bohr احد مؤسسي ميكانيكا الكوانتم، أدخل فكرة التكاملية complementarity التي تقول ان الموجودات الكمومية تتصرف اما على شكل موجات او على شكل جسيمات ولكن ليس الاثنين في وقت واحد. ما نراه يعتمد على كيفية قياسنا. (2) هذا يسير بالضد من العلم الكلاسيكي، وبدلا من ذلك تكون نظرة التكامل مطلوبة لفهم كامل الحقيقة. وبطريقة مشابهة، مدرسة سامكايا أيضا تتحدث عن واقعين اثنين أساسيين متكاملين: المادة والوعي. المادة تتغير باستمرار بينما الوعي ثابت وأبدي، وعلى الرغم من انهما متميزان، هما يعملان مجتمعان لخلق تجربتنا. لذا، مثلما الموجة والجسيم، نجد المادة والوعي مختلفين لكنهما كلاهما ضروريان للصورة الكاملة.
فيزياء الكوانتم أيضا ابتكرت فكرة الاحتمال وجلبتها الى قلب القوانين الفيزيائية. خلافا للفيزياء الكلاسيكية، حيث نستطيع نظريا التنبؤ الدقيق بالنتائج فان معادلات فيزياء الكوانتم تخبرنا عن احتمالات لمختلف النتائج. هذا يذكّرنا بالفكرة الهندية لقانون السبب والنتيجة – كارما - لأننا هنا نجد كل شيء غير ثابت وانما أفعالنا الماضية تؤثر على احتمال ما يحدث في المستقبل. هنا يتوفر مجال للإرادة الحرة.
العديد من رواد فيزياء الكوانتم وجدوا الإلهام في الفلسفة الهندية. اروين شرودنجر Erwin Schrodinger مثلا، تأثر بعمق بـ ـ ادفاتا فيدانتا. في كتابه (ما هي الحياة،1944) هو يكتب حول وحدة كل الحياة، مرددا صدى لفكرة فيدانتا ان الذات هي نفس العالمي. هو اعتقد ان الحياة ليست منفصلة عن الكون، وانما هي واحدة معه.
وبينما نجد التشابهات بين فيزياء الكوانتم والفلسفة الهندية مثيرة ومحفزة فكريا، لكن العلماء يدعون الى توخّي الحذر في رسم المساواة. احدى المخاوف الكبيرة هي خطأ التصنيف category error عندما يمزج احد البُنى العلمية مع المعتقدات الميتافيزيقية والروحية. مفاهيم الكوانتم مثل وظيفة الموجة، التراكب، التشابك تبرز من اطر رياضية صارمة وتجارب ميدانية، بينما الأفكار الميتافيزيقية الهندية تتجذر في الاستبطان والتأمل الفلسفي.
بالإضافة الى ذلك، ميكانيكا الكوانتم منفتحة للتفسيرات المتعددة (مثل تفسير كوبنهاغن في العوالم المتعددة، و نظريات الموجة التجريبية) وهي لا تخصص جميعها دورا سببيا للوعي. وهكذا، فان مساواة تفسيرات الكوانتم المرتكزة على الوعي مع أفكار فيدانتا ـ شاتشنيا ربما تبالغ في حجم التشابه. هناك أيضا نزعة نحو الرومانسية عندما يقال مثلا ان حكماء الهنود القدماء توقّعوا أفكار الكوانتم. ومع ان الفلسفة الهندية في الحقيقة تعرض رؤى عميقة للواقع، لكن مثل هذه الادّعاءات عادة تفتقر الى الصلاحية التجريبية وتعمل كما لو انها تخاطر في إضعاف كلا الحقلين.
مع ذلك، يمثل الصدى المفاهيمي لهاتين الرؤيتين العالميتين ارضا خصبة للثقافة العابرة والحوار المتعدد الاختصاصات في كل من العلم والفلسفة.
نحو رؤية موحدة
ان التقارب بين فيزياء الكوانتم والفلسفة الهندية لا يقترح مساواة تامة بين الاثنين وانما يسلط الضوء على التداخل في استكشافاتهما للغز الوجود العميق. كلا الحقلين يتحديان الفكرة الكلاسيكية للواقع الموضوعي المستقل المُلاحظ، ويرفعان دور المراقب. ميكانيكا الكوانتم بإطارها الاحتمالي، وانهيار وظيفة الموجة، وتأثير المراقب، تكشف كونا يقاوم الحتمية المادية الصارمة وتدعو لمزيد من الفهم الدقيق التشاركي للواقع. ونفس الشيء بالنسبة للتقاليد الفلسفية الهندية مثل ادفاتا فيدانتا وماهاينا تؤكد على ان الواقع ليس شيئا منفصلا وثابتا، وانما مرتبط بالصميم مع الوعي والتصور. كذلك، بالنسبة للنظرة الاوبانيشادية والفكرة البوذية للنشأة المعتمدة، تتماشى مع رؤية الكوانتم لكون علائقي مترابط.
وكما لاحظ فريتجوف كابرا Fritjof capra في كتابه عام 1975 طريق الفيزياء (The Tao of physics) ان التوازي المثير بين الفيزياء الحديثة والصوفية الشرقية يبرز من ادراكهما المشترك لفهم وحدة جميع الظواهر. ان مضامين هذا الالتقاء في المنظور عميقة. العلم عادة يركز على القياس الموضوعي، يستفيد من الرؤية الفلسفية الأوسع والأكثر تأملا في سياق اكتشافاته. وعكس ذلك، الفلسفة الهندية تكتسب بُعدا جديدا عندما تجد لرؤاها الميتافيزيقية صدى في استنتاجات الفيزياء الحديثة. كلاهما يمهدان الطريق لنظرة عالمية كلية – نظرة غير اختزالية، مترابطة ومتكاملة وتشاركية بعمق. المقارنة بينهما تدعو الى حوار ثري بين العلم والروحانية والعقل والتأمل.
***
حاتم حميد محسن
........................
Quantum physics and Indian philosophy, Philosophy Now ,oct/Nov 2025
الهوامش
(1) يعني وجود نظام في حالات متعددة الاحتمال وفي وقت واحد حتى يُقاس. وعندما يُقاس النظام ينهار في حالة منفردة معينة، لكنه قبل ذلك يوجد في مجموعة من كل الاحتمالات.
(2) فكرة نيل بور في التكاملية هي ان خصائص معينة في الأشياء الكمومية هي تكاملية، مثل الالكترون، بما يعني انها لا يمكن ملاحظتها في نفس الوقت. فمثلا، يستطيع المرء قياس موقع الالكترون او زخمه ولكن ليس الاثنين في وقت واحد.