أقلام فكرية
مصطفى غلمان: مَن يَكْتُبُ النَّصَّ؟ ومَن يَمْنَحُهُ الخُلُودَ؟

(نحن نقرأ لا لنكتشف المؤلف، بل لنكتشف أنفسنا من خلال النص)... تزفيتان تودوروف
هل يمكن لنصٍّ مهما بلغ من الجمال أن يُصبح بلا أثر؟ وهل تتوقف عظمة النص على صاحبه أم على طاقته الإبداعية الداخلية؟ تلك الأسئلة القديمة الجديدة التي تشكّل نقطة التماس بين النظرية الأدبية والسوسيولوجيا الثقافية، بين فلسفة الجمال وميتافيزيقا المعنى. فالنص، وإن كان مولودًا من ذات كاتبه، إلا أنه لا يظل رهينها. وما أن يُكتب، حتى يدخل منطقة أخرى، غامضة ومفتوحة، تُعرف بـ"الوجود النصي" المستقل عن النوايا والأسماء.
يؤكد التاريخ الثقافي أن النصوص العظيمة لا تُخلّد بالضرورة بأسماء أصحابها، وأن النصوص الصغيرة قد تتضخم أحيانًا بظلّ شهرة كاتبها. في هذا المفترق الإشكالي، تتولد المفارقة الكبرى، لماذا يتفاعل المتلقي مع النص الشهير، ويصمت أمام النص المغمور؟ أهو نوع من الولاء الرمزي للمؤلف؟ أم أن فعل القراءة نفسه صار ممارسة اجتماعية خاضعة لمنطق الاعتراف والهيمنة الرمزية كما وصفها بيير بورديو؟
إن ما يجعل النص "عظيمًا" ليس هو تاريخه المؤلفي، بل قدرته على إعادة إنتاج المعنى خارج سلطته الأولى. من هنا يتأسس ما يمكن تسميته بـ"تحرر النص"، لحظة انفكاكه عن سيرة كاتبه ودخوله في حوار مع وعي القارئ. وهنا تلتقي أطروحة رولان بارت حول "موت المؤلف" مع المبدأ الهيرمينوطيقي لغادامير، الذي يرى أن النص يعيش فقط حين يعاد تأويله باستمرار في أفق فهمٍ متجدد.
لكن المفارقة أن المتلقي المعاصر، وقد تشرّب ثقافة "الاسم"، لم يعد يبحث في النص عن دلالاته، بل عن صدى كاتبه الاجتماعي وموقعه الثقافي. يغدو النص مجرد ظلٍّ لسلطة الاسم، ويفقد فعله التأثيري الحقيقي. ذلك أن الفعل الثقافي في جانبه التلقّي، حين يتحلل من مسؤوليته الجمالية والمعرفية، يتحوّل إلى شكل من الاغتراب الثقافي، حيث يُستبدل جوهر الإبداع بسطوة الرمزية.
فهل نقرأ النص لنكتشف ذواتنا، أم لنؤكد انتماءنا إلى منظومة أسماء كبرى؟ وهل القيمة الأدبية صادرة من النص ذاته، أم من مؤسسات الاعتراف التي تمنح الشرعية لما يُسمى "الأدب الرفيع"؟ أليست كل قراءةٍ، في العمق، إعادة كتابة من نوع آخر، تجعل من القارئ كاتبًا مؤجّلًا؟
لقد أشار ميشال فوكو في نصه الشهير ما المؤلف؟ إلى أن وظيفة المؤلف ليست وصفًا لشخصٍ بعينه، بل هي نظام خطابٍ ينتج السلطة ويحدّد من يحق له الكلام ومن يُقصى من فضاء المعنى. هكذا يتحوّل الاسم إلى آلية ضبط للخطاب، لا إلى علامة للخلق. أما في المقابل، فإن النص المغمور، الخارج من هامش الثقافة، يحتفظ غالبًا بنقائه الأول، نصٌّ بلا ادعاء، يُريد أن يُقال لا أن يُستعمل.
في هذا الأفق، يمكن القول إن النص الذي يُقاس بمقام كاتبه لا يعيش طويلًا. بينما النص الذي يُقاس بقدرته على استثارة الدهشة والفكر، هو الذي يدخل خلد المكتبة الإنسانية. إننا نقرأ هوميروس دون أن نعرف هويته بدقة، ونبكي مع شعراء مجهولين عبر قرون لأن نصوصهم كانت أكبر من أسمائهم.
ربما كان مصير النص الحق أن يعيش في عزلةٍ نبيلة، ككائنٍ لا يُعرف له أبٌ ولا نسب، يسير في دروب القراءة متخفيًا، يوقظ ما خفي من الوعي، ويكسر ما تراكم من يقين. فحين يموت المؤلف، يولد النص في الزمن. يصبح المعنى جسدًا يتنفس داخل قارئٍ لا اسم له، قارئٍ لا يبحث عن شهرة الكاتب بل عن صدق التجربة الإنسانية فيه. هناك فقط، تتطهر الكلمة من سوق الأسماء، وتستعيد براءتها الأولى، لتغدو فعل معرفةٍ لا يخضع إلا لسلطة الدهشة.
هل يمكن للنص أن يتحرر فعلاً من جاذبية كاتبه؟ وهل يمكن للقارئ أن يقرأ بعيدًا عن التحيزات الرمزية والاجتماعية التي تحكم ذائقته؟
ربما لا جواب نهائي لهذه الأسئلة، لكن قيمتها تكمن في إبقائنا في حالة توتر معرفي جميل بين النص والكاتب والقارئ. ذلك التوتر هو الذي يصنع حياة النصوص، ويدفعنا لأن نسأل من جديد: من يكتب النص؟ ومن يمنحه الخلود؟
فِي خُلُودِ النَّصِّ وَأَوْهَامِ الْكَاتِبِ
إنها استعارة تتجاوز ظاهر الكتابة إلى جوهر الوجود، إذ ليس النص مجرد حروفٍ تُسطَّر على بياضٍ عابر، بل كينونةٌ تنبضُ بما يتخطى صاحبها، لتصبح الذاكرةُ نفسها محبرةً أخرى تواصل الكتابة بعد أن يجفَّ الحبر الأول.
فالكاتب، في لحظة الخلق، يوقظ من المعنى ما يظنه ملكه، غير أن النص ما يلبث أن يتحرر من سلطة صاحبه، ليصير ملكًا للقراءة، ولزمنٍ آخر يمنحه الخلود أو يدفنه في النسيان.
إن الخلود لا تصنعه الأقلام، بل تنحته العقول التي تقرأ، والقلوب التي تعي أن كل نصٍّ عظيم هو محاولة لتحدي الفناء بلغته الخاصة. فالنص، حين يغادر صاحبه، يتحول إلى كيانٍ حرٍّ يعيش بقدر ما يُقرأ، ويُعاد تأويله، ويُستدعى في الذاكرة الجمعية. الكاتب يكتب مرة واحدة، لكن القارئ يخلق النص ألف مرة. لذلك، فإن الخلود لا يكون للنص الذي يصرخ، بل لذاك الذي يهمس في وجدان الزمن، فيجد صداه في أرواحٍ لم تولد بعد.
الخلود إذن، ليس في البقاء المادي للكلمات، بل في قدرتها على أن تُحدث رعشةً في الفكر والوجدان، في أن تترك أثرًا لا يُرى، لكنه يُحَسّ، كأنها نَفَسٌ ممتدٌّ بين الكاتب والقارئ، بين الغياب والحضور، بين الفناء والمعنى.
هكذا فقط، يصبح النص كائنًا حيًّا، يواصل العيش بعد موت كاتبه، لأن من يمنحه الخلود ليس القلم، بل الوعي الذي يعيد قراءته بروحٍ جديدة كل مرة. وهكذا، لا يعود النص ملكًا لكاتبه، بل يصبح مرآةً لما يتجاوز الإنسان ذاته. إنّه أثر الوجود حين يتجلى في اللغة، وبذرة الوعي حين تُزرع في تربة المعنى. قد يرحل الكاتب، لكن كلماته تظلّ تمشي على الأرض كأقدام الضوء، تبحث عن قارئ يمنحها حياة أخرى. فكل قراءة هي بعث جديد، وكل قارئ هو مؤلف ثانٍ يعيد للنص روحه المخبأة.
أعتقد أن الخلود ليس وعدًا أدبيًا، بل فعلُ حضورٍ مستمر، يحدث كلما تلامست روح مع حرفٍ نابض بالحقيقة. عندها فقط، نفهم أن الكاتب لم يكن يكتب ليدوَّن، بل ليُبعث، وأن النص لا يعيش إلا بقدر ما يوقظ فينا ما ظنناه نائمًا من دهشة وبصيرة.
***
د. مصـطـفــى غَـــلمـان