أقلام فكرية
غالب المسعودي: عدم الكمال الفلسفي والتشتت الأيديولوجي في الشرق الأوسط

أن عدم الكمال الفلسفي* يشير إلى استحالة تحقيق الكمال في الوجود البشري. المعنى الفلسفي العميق لفكرة (عدم الكمال) التي تتجاوز مجرد العيوب الظاهرة يشير إلى فكرة أن أنظمة الفكر البشريّ (الفلسفة، الأخلاق، المنطق، المعرفة) لا يمكن أن تصل إلى الكمال أو الاكتمال المطلق. الانسان غير قادر على الإحاطة بجميع الحقائق أو إدراك الحقيقة الكاملة لأي موضوع (ميتافيزيقي، أخلاقي، علمي) كل نظام فكريّ يحمل داخله تناقضات أو فجوات لا يمكن سدّها، المعرفة البشرية قائمة على السياق الثقافي والتاريخي والخبرات الذاتية، وبالتالي فهي غير مطلقة كما قال نيتشه لا وجود لحقائق، بل تأويلات فقط. قانون عدم الكمال يعتمد على عدة مبادئ فلسفية تساعد على فهم وتقبل عدم الكمال في الحياة والفشل هو جزء طبيعي من الحياة علينا أن نتقبل أن الأخطاء والتجارب السلبية تعد فرصًا للتعلم والنمو، العقلانية مهمة، لكن أيضا يجب أن نسمح للعواطف بالتعبير عن نفسها بجانب التفكير المنطقي، كل شخص يسير في طريق مختلف والتركيز هو على التقدم الشخصي كون الحياة مليئة بالتغيرات. الطبيعية الموضوعية لن تسير دائمًا كما نريد، وأن التكيف مع التغييرات جزء من النمو، تطبيق هذه المبادئ يمكن أن يساعد في تقبل عدم الكمال، مما يؤدي إلى حياة أكثر توازنًا وسعادة.
التراث السردي في الشرق الأوسط عدم الكمال الفلسفي
في التراث السردي الشرق الأوسط، يمكن أن نجد عدة أسباب لعدم وجود مكان واضح عدم الكمال الفلسفي، الكثير من القصص والأساطير تتسم بالتأكيد على الكمال كقيمة مثالية. الأبطال غالبًا ما يُصوّرون على أنهم مثاليون، مما يُعزز فكرة الكمال كهدف يجب السعي إليه، رغم ان في العديد من الديانات، تعتبر الكمال صفة إلهية. وبالتالي، يُنظر إلى البشر ككائنات غير كاملة، لكن فكرة السعي نحو الكمال هو واجب ديني، القصص تميل إلى التركيز على الأحداث البطولية والتجارب الفريدة، مما يغفل الجوانب الإنسانية العادية، مثل الفشل أو الضعف، المجتمعات التقليدية غالبًا ما تضع توقعات عالية على الأفراد، مما يؤدي إلى ضغط اجتماعي لتحقيق الكمال في الأداء والسلوك، الرموز والأساطير في التراث الشرق اوسطي غالبًا ما تتسم بالتمجيد والكمال، مما يجعل من الصعب قبول عدم الكمال كجزء من التجربة الإنسانية .بعض الفلاسفة في التراث الشرقي يرون أن السعي نحو الكمال هو جزء من تحقيق الذات، مما يجعل من الصعب قبول عدم الكمال كفكرة ،هذه العوامل تجعل من الصعب قبول مفهوم عدم الكمال في التراث السردي الشرقي ، حيث يتم تفضيل الكمال كمثل اعلى وقيمة مرجعية. التركيز على الكمال في السرديات يؤثر بشكل كبير على عدة جوانب منها تقديم شخصيات مثالية يخلق توقعات غير صحيحة لدى الجمهور، مما يجعلهم يشعرون بالضغط لتحقيق مستوى مشابه من الكمال في حياتهم، التركيز على الكمال يمكن أن يؤدي إلى تجاهل الجوانب الإنسانية والعيوب التي تجعل الشخصيات أكثر واقعية وعمقًا. السرد الذي يركز على الكمال يقلل من تنوع الشخصيات والقصص، حيث يتم تفضيل النماذج المثالية على التجارب الإنسانية المتنوعة ،كما يعزز فكرة ان السرد القائم الفشل غير مقبول، مما يؤدي إلى الشعور بالقلق وعدم الأمان لدى الأفراد الشخصيات التي لا تتعرض الى الصراعات ، مما يجعل القصة أقل تأثيرًا ،التركيز على الكمال يمكن أن يؤدي إلى عقلانية مفرطة، حيث يُعتقد أن النجاح يتطلب تخطيطًا دقيقًا وتحليلًا صارمًا، مما يغفل أهمية العواطف والحدس، ان تحقيق توازن بين تقديم النماذج المثالية والاعتراف بالعيوب الإنسانية يجعل القصص أكثر واقعية وتأثيرًا.
وجهات نظر ثقافية
تتباين وجهات النظر الثقافية حول عدم الكمال بشكل كبير، وتظهر في عدة مجالات في الفلسفة الشرقية. منها التي تركز على قبول الطبيعة غير الكاملة للأشياء ،اما في الفلسفة الغربية تركز أكثر على السعي للكمال، مع وجود بعض التوجهات التي تعترف بضرورة الفشل كجزء من التجربة الإنسانية الفنون اليابانية مثل (الكينتسوجي) تعود أصول الكينتسوجي إلى القرن الخامس عشر في اليابان، وقد تطورت لتصبح رمزًا ثقافيًا يعبر عن تقدير الجمال في ما هو غير كامل، تعزز الجمال في الأشياء المكسورة، وتعتبر العيوب علامات على التاريخ والقيمة، ولكن هناك أيضًا توجهات حديثة تعترف بجماليات العيوب مثل البوذية، التي تشجع على قبول الحياة كما هي، بما في ذلك عيوبها رغم انها تركز على الخلاص والكمال، مما يمكن أن يجعل قبول العيوب أمرًا أكثر تعقيدًا، التركيز على النجاح الشخصي، يمكن أن يؤدي إلى ضغط كبير لتحقيق الكمال، بعض المجتمعات التقليدية تعزز من قيمة العيوب كجزء من الهوية الثقافية، مما يعكس تجارب الحياة اليومية، لكنها تكون أكثر قلقًا حول الصورة العامة والنجاح، مما يجعل قبول العيوب أكثر صعوبة. تظهر وجهات النظر الثقافية حول عدم الكمال تنوعًا كبيرًا، مما يعكس كيفية تأثير القيم والمعتقدات الاجتماعية والدينية على فهم الإنسان لنفسه ولتجاربه. فهم هذه الاختلافات يمكن أن يسهم في تعزيز التعاطف والقبول عبر الثقافات. تتشابك الفلسفات لتشكل نظرة شاملة حول عدم الكمال في الثقافات التي تجمع بين التأثيرات الشرقية والغربية. تسهم هذه الفلسفات في تعزيز تقبل العيوب وفهمها كجزء من التجربة الإنسانية.
قانون عدم الكمال والتشتت الايديولوجي
قانون عدم الكمال والتشتت الأيديولوجي يشير إلى فكرة أن المجتمعات التي تتسم بالتنوع الطائفي أو الإيديولوجي غالبًا ما تواجه تحديات في تحقيق الوحدة والانسجام. عدم الكمال يشير إلى أن أي نظام أو مجتمع لا يمكن أن يكون مثاليًا أو كاملًا بسبب الاختلافات والتنوعات الموجودة فيه، التشتت الأيديولوجي يعني وجود مجموعة من الأفكار والمعتقدات المختلفة التي تؤدي إلى صراعات أو تباينات بين الفئات المختلفة داخل المجتمع، يمكن أن يؤدي هذا التشتت إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، حيث تتباين المصالح والأهداف بين الجماعات المختلفة، التنوع القبلي له تأثير كبير على قانون عدم الكمال والتشتت الطائفي. يؤدي التنوع القبائلي إلى تعزيز الهوية الفردية والجماعية، مما يساهم في تعزيز الفروقات بين الجماعات وقد تنشأ صراعات بين القبائل المختلفة، خاصة إذا كانت هناك موارد محدودة أو تباينات في المصالح مع وجود ولاءات متعددة (للقبيلة، للطائفة، للوطن)، ويصبح من الصعب تحقيق توافق في الآراء، مما يزيد من حالة عدم الكمال والتشتت في التنوع الثقافي الناتج عن القبائل المختلفة الذي يؤدي إلى سوء الفهم أو التوترات إذا لم يتم احترام هذه الفروقات.
الدوافع وراء التشتت الايديولوجي
قانون عدم الكمال يشير إلى أن الدوافع وراء التشتت الأيديولوجي والطائفي منها البحث عن السلطة، وبشكل خاص سلطة القبيلة. في المجتمعات المتنوعة، يمكن أن تكون هناك تنافسات بين القبائل على الموارد والسلطة، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار والصراعات هذا التنافس يزيد من حالة عدم الكمال، حيث تعمل كل قبيلة على تعزيز مصالحها الخاصة، مما يؤثر سلبًا على الوحدة والتماسك الاجتماعي. لذلك، تتداخل الدوافع القبلية مع قانون عدم الكمال، حيث تسهم في تعزيز الانقسامات والتباينات الأيديولوجية.
التشتت الأيديولوجي في الشرق الاوسط
الشرق الأوسط يتسم بتنوع هائل في الهويات الثقافية والدينية والعرقية، مما يؤدي إلى تناقضات وصراعات أيديولوجية، تختلف الأنظمة السياسية في المنطقة بين الملكيات، الجمهوريات، والأنظمة العسكرية، مما يساهم في عدم الاستقرار، تلعب القوى الكبرى دورًا في تعزيز الفوضى من خلال التدخلات العسكرية أو السياسية، مما يزيد من تعقيد الأوضاع ،تعتمد العديد من دول الشرق الأوسط على النفط كدخل رئيسي، مما يؤدي إلى ضعف تنمية القطاعات الأخرى ويخلق فجوات اجتماعية ،الصراعات الإقليمية والدولية، تؤدي إلى عدم الاستقرار وتشتت الجهود التنموية ،في غياب الحوار الفعّال بين مختلف الفصائل السياسية والدينية تتعمق الفجوة هذه العناصر مجتمعة تساهم في خلق حالة من التشتت الأيديولوجي وعدم الكمال في مختلف جوانب الحياة في الشرق الأوسط.
***
غالب المسعودي – باحث عراقي
.........................
* إنَّ الربط بين مفهوم فلسفي عميق مثل "عدم الكمال" والأزمات الجيوسياسية المعقدة التي يعاني منها الشرق الأوسط، يفتح بابًا لتشخيص يتجاوز التحليلات السياسية والاقتصادية المعتادة، ليغوص في البنى الفكرية والنفسية التي تشكل الواقع.
* نقد العقل المحض" لكانط (أساس لفهم حدود المعرفة)
* هكذا تكلّم زرادشت" لنيتشه (نقد لفكرة الحقائق المطلقة)