أقلام فكرية
اسعد الامارة: ثقافتنا هي.. كلام اللاوعي – اللاشعور

الاهداء إلى: الدكتور حمد سلطان والدكتور حيدر خالد والتشكيلي رياض غنيه
ما نقوله أو نكتبه أو نتحدث به أمام جمع من الأصدقاء هو لغة تم خزن مفرداتها وأفكارها وتم إعادة صياغتها بأسلوب جديد، فأفكارنا هي نسيج من عالم لاوعينا الذي استدعيناه بلغة شعرية، أو قصيدة، أو نص مسرحي عميق، أو رواية، أو لوحة فنية، أو منحوتة عميقة الرمزية، هناك القوى الخفية التي تدفع الإنسان إلى الفعل، أو القول بهذا المأثور وسنعثر حتمًا الجديد الذي يقال مما تم خزنه، فعندما نتكلم فإننا لا نقتصر على نقل المعلومات التي نعتقد أننا ننسجها حول الموضوع الذي نعتقد أننا نتكلم عنه لوحده، بل إنها صور من عالم بأجمعه من عوالم الفكرة، أو رمزية النص وما يراد قوله عند المؤلف أو صاحبه، فتكون لهذه الكلمات أصداء والافضل أن نقول لها تضمينات ملحمية كانت، أم تراكم خبرات تم اطلاقها من جديد بصور شتى، فتكون وظيفة الكلمة، أو بشكل أدق ما هي وظيفة الدال، أو وظيفة ذلك الجزء من السلسلة الصوتية، أو الفكرة التي ينطق بها الإنسان، أو الكلمة التي نسمعها. ويرى "فيليب شملا " من المؤكد أن هذه الإمكانيات لا تعطي لنا على وجه العموم، فالكتابة أو السياق يسمجان لنا، في نهاية كل جملة، بإبراز معناها، ولكننا نعلم أن سوء التفاهم ممكن دائمًا ونعلم كيف تستخدم إمكانية المعنى المزدوج للتلاعب بالكلمات، ونعلم أن هذا الغنى الكامن في معاني الكلمات ضمن الشعر، وضمن الشعر المعاصر على الوجه الخصوص وهو ما يسمى تعدد المعاني يسمح لنا بالكثير من القراءات، وكذلك النحت برمزيته الذي هو نتاج فكري عميق من اللاشعور – اللاوعي كما عبر عنه صديقي النحات الشهير الدكتور حمد سلطان بمنحوتاته العميقة، أو لوحات التشكيلي رياض غنيه والتشكيلي حيدر خالد بنتاجاتهم التي تحمل الرمزية العالية، منبعها اللاوعي – اللاشعور بعمقه ونتفق بذلك.. إن الإنسان نتاج اللغة، بكل اشكالها وهو خطاب ترك بصماته خلال طفولة الإنسان، وتدلنا المعرفة النفسية أن اللغة، أو نتاج الفكر عندما تتكون لدى الفرد تكون وظيفتها هي تمثيل، أو بعبارة أدق حمل الرغبة البشرية. وهي بنفس الوقت ميل الذات إلى ترميز ما لا تستطيع الإحساس به إلا باعتباره تمزقًا ودراما، وإلى تكراره إلى ما لانهاية له كما عبر عنه "فيليب شملا" ويضيف قوله يمكننا القول إن الرغبات البشرية تتحقق دائمًا عبر موضوعات بديلة، أو عبر اللغة مرة أخرى، ونضيف عبر الاعمال الفنية ذات الرمزية العالية فهذه الرغبات لا تعبر عن نفسها حيث تعتقد الذات ذلك، إنه اللاوعي – اللاشعور الذي هو خطاب الآخر، ونتفق مع القول بأن الرمزي هو نظام الثقافة الذي يعتمد على التخيل، ويحق لنا القول إن اللغة والنتاج الفني والفكري هو شرط اللاوعي.
من المسلم به بأن من العناصر الرئيسة التي يقوم عليها التحليل النفسي هي نظرية في اللاشعور – اللاوعي فضلا عن فنيات العلاج الشهيرة بالتداعي الحر – الطليق، لذا فإن طريقة العلاج لا تستجوب الإنسان بذاته، بل تلك المنطقة السرية التي تجعل أية معرفة عن الإنسان سهلة حينما نطرقها بأساليب معينة، بوساطة اللغة، ويرى " حسين عبد القادر" قوله: لقد أكتشف " فرويد " قيمة اللغة، بقدر ما أكتشف أن اللاوعي – اللاشعور لغة في الإنسان وحال في وجوده، ولم يتوقف عن تقويم معرفته وتطوير نظريته ومفاهيمه، مدركًا أن الإنسان عدوًا لما يجهل، وإن إزالة الجهل تتعارض مع قانون أقل الجهد الذي يحكم الطبيعة والأشياء، ونقول أن الجهد العقلي المتميز في الثقافة والفكر والرواية والقصة والأدب بمختلف نتاجاته من الشعر ونتاج المسرح هو نبش للاوعي – اللاشعور، لأن للاشعور – اللاوعي لغة كما عبر عنها " جاك لاكان " بقوله: أن اللغة هي ما يحدد الإنسان، وهو بنفس الوقت إعلاء وتسامي لملحمة ما يدور في النفس لا سيما أن آلية التسامي كما يراها " فرويد " مؤسس التحليل النفسي تقوم على تحويل الطاقة في النفس البشرية من موضوعه الأصلي إلى موضوع بديل ذي قيمة ثقافية واجتماعية، ويقول فرويد: إن المنبهات القوية الصادرة عن المصادر الجنسية المختلفة تنصرف وتستخدم في ميادين أخرى بحيث تؤدي الميول التي كانت خطرة في البداية إلى زيادة القدرات والنشاط النفسي زيادة ملحوظة، تلك إحدى مصادر الانتاج الفني.
الثقافة يعبر عنها باللغة، العلوم الصرفة يعبر عنها باللغة بعد إثبات تجاربها أو نفيها، العلوم الإنسانية يعبر عنها باللغة، الفلسفة صلب فكرها وبحثها هي اللغة، وكل ما تقدم من نتاجات الإنسان يكون عبر اللغة، واللغة عبر الكلام، والكلام هو الوسيط الوحيد في ممارسة أي سلوك معلن، أو غير معلن إذا ما كان تكوين فرضي لفكرة بعينها، أو هفوة، أو زلة لسان، وما أكثر ما حدثنا عنه فرويد بتمعن عال وعميق عن هذه اللغة، وهي تصدر من اللاشعور – اللاوعي، ولا نغالي إذا اتفقنا مع القول التالي: ان أي نشاط إنساني إنما تكون التخييلات هي بمثابة الطليعة التمهيدية له " السيد البدوي فتحي ". اللغة هي قمة النشاط الإنساني وجوهره، وهي أيضًا فعل الدلالة للإنسان وكذلك العلاقات المتبادلة بين التخييلات.
ان النتاج الأدبي والفكري بكل اشكاله وانواعه هو نكوص يدل معًا على عودة الفكر إلى التمثيل المصور وعودة الإنسان إلى الطفولة ويرى " فرويد" أن هذا النكوص الشكلي، وهذا النكوص الزمني، نكوصًا من نوع آخر، النكوص الموقعي، أي رجوع فكرة، مخرجها الحركي مسدود من القطب الحركي نحو القطب الإدراكي على النمط الهلوسي. الكتابة وأسلوب استخراج الأفكار والأبداع هو نوع من الهلوسة تنتج إبداع عن نفس الإنسان، فالتمثل هو تصور أو مجموعة من التصورات التي تثبتت عليها الرغبة خلال تاريخ الشخص وتدون في النفس بوساطتها، فتلك التمثلات وهي في الأساس طاقة لم تجد لها منفذًا في حياة الطفولة لبعض الأطفال - الأشخاص ذوي الحساسية المفرطة، والتفكير العميق مع الرمزية الواسعة المصاحبة لها بالتخييلات، حيث يتم كبتها، أو المقاومة من الشخص لما يفرض عليه من الوالدين، أو بديلهما، فالطفولة هي مخزون البلوغ في السلوك والأفعال والعدوانية والتعصب والبخل والكراهية والنميمة وغيرها من سمات الشخصية التي تبدو بشكل كامل في تعاملاتنا مع الآخرين. أما من استطاع إلى تحويل تلك الطاقة المكبوتة والمشحونة بالطاقات النفسية التي وجدت لها منصرفًا مقبول اجتماعيًا، كان النتاج الأدبي والفكري والشعر وكل تلك النشاطات بما فيها أنواع الرياضة، وإن أختلفت بمسارها الواقعي في الإنتاج اللغوي والفكري.
تبين لنا الأدبيات النفسية وأطرها التحليلية بأن تلك الطاقة التي قاومت ولم تفلح يومًا ما لضعف قدرة الطفل على أن يمارس رغبته، ستظهر الحاجة من جديد، وسيكون ثمة شيء يدفع ذلك بفضل العلاقة القائمة بين انطلاق اندفاع نفسي سيوظف من جديد تلك الصورة التذكرية لهذا الإدراك نفسه مجددًا، أي سيكون وضع الاشباع الأول وتحقيقه، وهذا الاندفاع هو الذي نسميه " رغبة " فظهور الإدراك مجددًا هو انجاز الرغبة، والتوظيف الكامل للإدراك بوساطة إثارة الرغبة هو الدرب الأقصر لإنجاز الرغبة كما عبر عن ذلك "بول ريكور"، ونقول أن الرغبة تعمي الإنسان ليس ببصره بل في ما هو محيط حوله، فرغبة الفنان لا يمكن وصفها، أو قمعها وإن كلفته حياته، ورغبة الشاعر في الشعر لا يمكن كبحها، ورغبة الروائي في انتاجه لا يمكن منعها، وقول " جاك لاكان " الشيء الوحيد الذي يمكن أن تكون مذنبًا في شأنه، أقله من منظور التحليل النفسي هو أن تتخلى عن رغبتك، ونقول أن قمع الرغبة بكل أنواعها عند الإنسان هو أن تقوده بيديك إلى الجنون، وسواء كان هذا القمع من السلطة، أو المجتمع، أو الأسرة، أو الزوج أو الزوجة.. أو الدين.. الخ
***
د. اسعد الامارة