أقلام فكرية
زهير الخويلدي: الأخلاق كفلسفة أولى.. مقاربة أكسيولوجية

مقدمة: القولة "الأخلاق ليست فرعًا من الفلسفة، بل هي الفلسفة الأولى" تُعدّ إحدى الأطروحات المحورية التي تثير نقاشات عميقة في الفلسفة الغربية والعربية على حد سواء. تُبرز هذه القولة الأهمية القصوى للأخلاق كأساس للفكر الفلسفي، متجاوزة بذلك التصور التقليدي الذي يضع الأخلاق كفرع من فروع الفلسفة إلى جانب الميتافيزيقيا، المنطق، والمعرفة. في هذه الدراسة، سنستكشف معاني هذه القولة، ونحلل دلالاتها الفلسفية، ونناقش سياقها التاريخي والفكري، مع التركيز على أهمية الأخلاق في الفكر الفلسفي، وكيف يمكن اعتبارها "الفلسفة الأولى". سنتناول أيضًا الآراء المؤيدة والمعارضة لهذه القولة، مع استعراض لأبرز الفلاسفة الذين تناولوا هذا الموضوع، بالإضافة إلى تحليل السياقات الثقافية والاجتماعية التي تؤثر على هذا النقاش. متى تتحول الاخلاق من مجرد اختصاص فلسفي مثل بقية الاختصاصات الى فلسفة اولى؟ وما الذي يتغير في مستوى المنهج والمفاهيم والموضوع؟ وفيم تتمثل المقاربة الأكسيولوجية؟
تعريف الأخلاق والفلسفة
للبدء، من الضروري توضيح المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها القولة. الفلسفة، في جوهرها، هي السعي إلى فهم الحقيقة والوجود والمعرفة من خلال التفكير النقدي والتحليلي. أما الأخلاق، فهي الفرع من الفلسفة الذي يهتم بدراسة القيم، والصواب والخطأ، والواجب، والمسؤولية الأخلاقية. تقليديًا، تُعتبر الأخلاق جزءًا من الفلسفة إلى جانب فروع أخرى مثل الميتافيزيقيا (علم الوجود)، والإبستمولوجيا (نظرية المعرفة)، والمنطق، والجماليات. ومع ذلك، تقترح القولة إعادة تصنيف جذرية، حيث تُقدم الأخلاق ليس كفرع من الفلسفة، بل كجوهرها وأساسها. هذا الطرح يستدعي التساؤل: لماذا يُمكن اعتبار الأخلاق "الفلسفة الأولى"؟ وما الذي يجعلها تتجاوز الفروع الأخرى في الأهمية؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، يجب أن ننظر إلى السياقات التاريخية والفلسفية التي أدت إلى هذا التصور.
1. الأخلاق في الفلسفة اليونانية
في الفلسفة اليونانية القديمة، كان للأخلاق مكانة مركزية. فلاسفة مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو اعتبروا الأخلاق ليست مجرد فرع من الفلسفة، بل العنصر الأساسي الذي يهدف إلى تحقيق "الحياة الطيبة" (Eudaimonia). بالنسبة لسقراط، كانت الفلسفة بأكملها تدور حول السؤال: "كيف ينبغي للمرء أن يعيش؟"، وهو سؤال أخلاقي بامتياز. أفلاطون، في حواراته مثل "الجمهورية"، ربط الأخلاق بالعدالة، معتبرًا أن الفلسفة تهدف إلى فهم الكيفية التي يمكن بها للفرد والمجتمع تحقيق الانسجام الأخلاقي. أما أرسطو، في كتابه "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، فقد وضع الأخلاق كعلم عملي يهدف إلى تحقيق السعادة من خلال الفضيلة. هذا التركيز على الأخلاق في الفلسفة اليونانية يدعم فكرة أن الأخلاق ليست مجرد فرع، بل هي الغاية الأساسية للتفكير الفلسفي. إذن، يمكن القول إن القولة تجد جذورها في هذا التقليد الفلسفي الذي يضع الأخلاق في صميم الفلسفة.
2. إيمانويل كانط ومكانة الأخلاق
إيمانويل كانط (1724-1804)، أحد أبرز الفلاسفة في التاريخ الحديث، يُعتبر مصدر إلهام محتمل لهذه القولة. في فلسفته الأخلاقية، كما يتضح في كتابه "أسس ميتافيزيقيا الأخلاق" و"نقد العقل العملي"، وضع كانط الأخلاق في مركز الفلسفة. بالنسبة له، الأخلاق ليست مجرد تطبيق للعقل النظري، بل هي تعبير عن العقل العملي الذي يحدد كيف ينبغي للإنسان أن يتصرف بنفسه. مفهومه عن "الواجب" و"الأمر القطعي) يعكس فكرة أن الأخلاق هي المجال الذي يحدد القوانين العقلية التي تحكم السلوك البشري. كانط يرى أن الأخلاق هي المجال الذي يمنح الفلسفة معناها العملي، لأنها تربط الفكر الفلسفي بالحياة الإنسانية الواقعية. من هذا المنظور، يمكن اعتبار الأخلاق "الفلسفة الأولى" لأنها تُعنى بتحديد القيم التي توجه السلوك البشري، وهو ما يمثل جوهر التفكير الفلسفي.
3. الفلسفة الحديثة والمعاصرة
في الفلسفة الحديثة، ومع ظهور تيارات مثل الوجودية والبراغماتية، استمرت الأخلاق في لعب دور مركزي. على سبيل المثال، يرى جان بول سارتر أن الأخلاق تنبع من حرية الإنسان ومسؤوليته في خلق القيم. في الفلسفة المعاصرة، يواصل فلاسفة مثل يورغن هابرماس وجون راولز التأكيد على أهمية الأخلاق في بناء نظريات العدالة والتواصل البشري .ومع ذلك، هناك تيارات فلسفية أخرى، مثل الوضعية المنطقية، قللت من أهمية الأخلاق، معتبرة إياها مجرد تعبير عن المشاعر أو الرغبات الشخصية، مما أثار جدلاً حول مكانتها في الفلسفة. هذا الجدل يعزز أهمية القولة، حيث تتحدى التصورات التي تهمش الأخلاق وتضعها في صدارة الفكر الفلسفي.
المقاربة الأكسيولوجية في الإطار الأخلاقي الإنساني
المقاربة الأكسيولوجية، في الإطار الأخلاقي الإنساني، تركز على دراسة القيم كمحدد أساسي للسلوكيات والقرارات الأخلاقية التي تهدف إلى تعزيز الكرامة الإنسانية والعدالة والرفاهية الجماعية. هذه المقاربة تبحث في القيم الأخلاقية، مثل العدالة، الحرية، المساواة، والمسؤولية، وتسعى إلى فهم كيفية تشكيلها للعلاقات بين الأفراد والمجتمعات. في سياق الأخلاق الإنسانية، تؤكد المقاربة الأكسيولوجية على أهمية القيم الإنسانية المشتركة كأساس لاتخاذ القرارات التي تحترم حقوق الإنسان وتعزز التضامن الاجتماعي. على سبيل المثال، عند مواجهة قضايا مثل الفقر أو التمييز، تقدم هذه المقاربة إطارًا لتقييم الأفعال بناءً على مدى مساهمتها في تحقيق العدالة الاجتماعية أو تقليل المعاناة الإنسانية، مع التركيز على القيم الجوهرية مثل الكرامة والإنصاف. كما تتجاوز المقاربة الأكسيولوجية الاعتبارات المادية لتشمل الأبعاد الروحية والثقافية، حيث تُبرز القيم مثل التعاطف والرحمة كمحركات للسلوك الأخلاقي. على سبيل المثال، في سياق الأزمات الإنسانية كالهجرة أو النزاعات، تدعو هذه المقاربة إلى تبني قيم التضامن والمسؤولية المشتركة لدعم الفئات الضعيفة. من خلال تحليل القيم وتأثيرها على السلوك، تساهم المقاربة الأكسيولوجية في بناء إطار أخلاقي يركز على الإنسان، يوجه السياسات العامة والممارسات الفردية نحو تحقيق مجتمع أكثر عدلاً وإنسانية، مما يجعلها أداة حيوية لمواجهة التحديات الأخلاقية المعقدة في العصر الحديث.
في الاطار البيئي
المقاربة الأكسيولوجية، كإطار فلسفي، تركز على دراسة القيم ودورها في توجيه السلوكيات والقرارات، وتكتسب أهمية خاصة في سياق الأخلاق البيئية والوعي الإيكولوجي. تعتمد هذه المقاربة على فحص القيم الأخلاقية والجمالية والروحية التي تشكل علاقة الإنسان بالبيئة، بهدف تحديد الأسس التي ينبغي أن توجه التفاعل مع الطبيعة. في إطار الأخلاق البيئية، تسعى المقاربة الأكسيولوجية إلى إعادة تعريف القيم التقليدية التي غالبًا ما تكون أنثروبوسنترية (مركزية الإنسان)، وتعزز بدلاً من ذلك قيمًا إيكوسنترية أو بيوسنترية، حيث تُمنح الكائنات الحية والنظم البيئية قيمة جوهرية بغض النظر عن فائدتها للإنسان.
على سبيل المثال، تؤكد هذه المقاربة على أهمية احترام التنوع البيولوجي ليس فقط لأنه يدعم الحياة البشرية، بل لأن له قيمة في ذاته، مستمدة من تعقيد النظم الإيكولوجية وجمالها الطبيعي.
كما تساهم المقاربة الأكسيولوجية في تعزيز الوعي الإيكولوجي من خلال تشجيع الأفراد والمجتمعات على تبني قيم مثل المسؤولية، العدالة البيئية، والتضامن بين الأجيال، مما يؤدي إلى تغيير السلوكيات نحو ممارسات مستدامة، مثل تقليل الاستهلاك المفرط أو دعم السياسات البيئية. علاوة على ذلك، فإن هذه المقاربة تتجاوز الجوانب المادية للبيئة لتشمل البعد الروحي والثقافي، حيث تربط بين القيم الإنسانية، مثل الشعور بالانتماء للطبيعة، والحاجة إلى حمايتها كجزء من الهوية الجماعية.
من خلال إعادة صياغة القيم التي تحكم علاقتنا بالعالم الطبيعي، تُعد المقاربة الأكسيولوجية أداة حيوية لتحقيق تحول جذري نحو مجتمع أكثر وعيًا ومسؤولية تجاه البيئة، مما يجعلها ركيزة أساسية لمواجهة التحديات البيئية المعاصرة.
تحليل القولة: الأخلاق كـ"الفلسفة الأولى"
1. الأخلاق كأساس للتفكير الفلسفي
القولة تشير إلى أن الأخلاق ليست مجرد فرع من الفلسفة يمكن دراسته بشكل مستقل، بل هي الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة بأكملها. هذا التصور يمكن تفسيره من خلال عدة زوايا:
الأخلاق كغاية الفلسفة: الفلسفة، في جوهرها، تسعى إلى فهم كيفية عيش الإنسان حياة ذات معنى. الأخلاق، بصفتها الدراسة التي تهتم بالقيم والواجبات، توفر الإطار الذي يجيب عن هذا السؤال. فبدون الأخلاق، تصبح الفلسفة مجرد تأمل نظري خالٍ من التأثير العملي.
الأخلاق كمعيار للفروع الأخرى: الميتافيزيقيا، الإبستمولوجيا، والمنطق، وإن كانت ضرورية، فإنها تخدم في النهاية الأغراض الأخلاقية. على سبيل المثال، تساعد الميتافيزيقيا في فهم طبيعة الوجود، لكن هذا الفهم يكتسب معناه عندما يُستخدم لتحديد كيفية التصرف الأخلاقي في العالم.
الأخلاق كتعبير عن الحرية البشرية: كما أشار كانط، الأخلاق هي المجال الذي يمارس فيه الإنسان حريته العقلية. بينما تُعنى الفروع الأخرى بالحقائق النظرية، فإن الأخلاق تُعنى بالحرية والإرادة والمسؤولية، وهي جوهر الوجود البشري.
2. الأخلاق مقابل الميتافيزيقيا
تقليديًا، اعتُبرت الميتافيزيقيا "الفلسفة الأولى"، كما وصفها أرسطو، لأنها تُعنى بدراسة الوجود بما هو موجود. ومع ذلك، تقترح القولة أن الأخلاق يجب أن تحل محل الميتافيزيقيا في هذا الدور. هذا الطرح يمكن تبريره من خلال القول إن الأخلاق هي التي تمنح المعنى للوجود. فبدون قيم أخلاقية توجه السلوك، يصبح التفكير في الوجود مجرد تأمل مجرد.
3. الأخلاق والسياق الاجتماعي
الأخلاق لا تُدرس في فراغ، بل هي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسياقات الاجتماعية والثقافية. القولة تؤكد على أهمية الأخلاق كأداة لتنظيم العلاقات البشرية وبناء مجتمعات عادلة. في هذا السياق، يمكن اعتبار الأخلاق "الفلسفة الأولى" لأنها توفر الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي.
الآراء المؤيدة والمعارضة
1. الآراء المؤيدة
كانط وأتباعه: يرى كانط أن الأخلاق هي تعبير عن العقل العملي، وهي التي تمنح الفلسفة أهميتها العملية. أتباعه، مثل فلاسفة المثالية الألمانية، عززوا هذا التصور.
الوجوديون: فلاسفة مثل سارتر وكامو يرون أن الأخلاق هي جوهر الفلسفة لأنها تعكس حرية الإنسان في خلق القيم.
الفلاسفة الأخلاقيون المعاصرون: مثل ليفيناس وحنة ارندت وبول ريكور جون راولز وغادامير وهابرماس، الذي يرى أن الفلسفة يجب أن تُعنى بتحقيق العدالة الاجتماعية، مما يجعل الأخلاق في صدارة الفكر الفلسفي.
2. الآراء المعارضة
الوضعية المنطقية: يرى أتباع هذا التيار، مثل ألفرد آير، أن الأخلاق ليست علماً موضوعياً، بل مجرد تعبير عن المشاعر، مما يقلل من أهميتها مقارنة بالمنطق أو الميتافيزيقيا.
الفلاسفة الميتافيزيقيون: مثل مارتن هيدجر، الذي ركز على دراسة الوجود (Sein) كأساس للفلسفة، معتبراً الأخلاق ثانوية بالنسبة لفهم الوجود.
النفعيون: على الرغم من تركيزهم على الأخلاق، يرى بعض النفعيين، مثل جون ستيوارت ميل، أن الأخلاق يجب أن تُخضع لمعايير تجريبية، مما يجعلها فرعًا من الفلسفة بدلاً من أساسها.
الأخلاق في الفلسفة العربية والإسلامية
في السياق العربي والإسلامي، لعبت الأخلاق دورًا مركزيًا في الفكر الفلسفي. فلاسفة مثل الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن مسكويه وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن عربي وابن خلدون رأوا أن الأخلاق هي الغاية الأساسية للفلسفة. على سبيل المثال، في كتابه "تهذيب الأخلاق"، ركز ابن مسكويه على الأخلاق كوسيلة لتحقيق السعادة والكمال الإنساني. كما أن الفلسفة الإسلامية ربطت الأخلاق بالدين، معتبرة إياها تعبيرًا عن الشريعة والعقل معًا.
من هذا المنظور، يمكن القول إن القولة تجد صدى في الفكر العربي والإسلامي، حيث تُعتبر الأخلاق ليست مجرد فرع، بل هي جوهر الفلسفة الذي يربط بين العقل والروح والمجتمع.
التحديات والانتقادات
على الرغم من القوة الفكرية للقولة، فإنها تواجه تحديات عديدة:
النسبية الأخلاقية: يرى البعض أن الأخلاق نسبية وتختلف باختلاف الثقافات، مما يجعل من الصعب اعتبارها أساسًا عالميًا للفلسفة.
الطابع النظري للفلسفة: يرى بعض الفلاسفة أن الفلسفة يجب أن تظل مجالاً نظريًا يهتم بالحقيقة المجردة، بينما الأخلاق تُعنى بالتطبيق العملي.
التعددية الفلسفية: في ظل تنوع الفروع الفلسفية، قد يكون من الصعب إعطاء الأولوية للأخلاق على حساب فروع أخرى مثل المنطق أو نظرية المعرفة.
الخاتمة
القولة "الأخلاق ليست فرعًا من الفلسفة، بل هي الفلسفة الأولى" تُعدّ دعوة لإعادة التفكير في طبيعة الفلسفة وأهدافها. من خلال تحليل السياقات التاريخية والفلسفية، يتضح أن الأخلاق تحتل مكانة مركزية في الفكر الفلسفي، سواء في التقاليد اليونانية، أو الفلسفة الحديثة، أو الفكر العربي والإسلامي. الأخلاق، بصفتها المجال الذي يُعنى بالقيم والواجبات والحرية البشرية والمسؤولية على الأفعال، توفر الإطار الذي يمنح الفلسفة معناها العملي والإنساني. ومع ذلك، فإن القولة تظل مثيرة للجدل، حيث تواجه تحديات من تيارات فلسفية تؤكد على أهمية الفروع الأخرى. في النهاية، يمكن القول إن الأخلاق، حتى لو لم تكن "الفلسفة الأولى" بالمعنى الحرفي، فإنها تظل عنصرًا لا غنى عنه في أي تفكير فلسفي يسعى إلى تحقيق حياة إنسانية ذات معنى. هذه الدراسة تؤكد على ضرورة إعادة تقييم مكانة الأخلاق في الفلسفة، مع الأخذ في الاعتبار التحديات الثقافية والاجتماعية التي تواجهها في العصر الحديث. فكيف يمكن تطوير الأخلاق وتجديدها حتى تواكب التغيرات الجذرية في الحقبة المعاصرة؟
***
د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي
.........................
المصادر والمراجع:
كانط، عمانويل. أسس ميتافيزيقا الأخلاق.
أرسطو. الأخلاق إلى نيقوماخوس.
ابن مسكويه. تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق.
سارتر، جان بول. الوجودية مذهب إنساني.
راولز، جون. نظرية في العدالة.
هابرماس، يورغن. نظرية الفعل التواصلي.