أقلام فكرية
غالب المسعودي: النشاط الأنطوإبستيمولوجي الكلي

يُعد التفلسف ظاهرة إنسانية متجذرة، تتجاوز مجرد كونها مجموعة من النظريات الساكنة لتصبح "ديناميكية فاعلة" أو "نشاطاً إدراكياً مستمراً". هذا النشاط يهدف بشكل أساسي إلى معالجة وحل المشكلات التي يطرحها الواقع المعاش؛ لكنه يتميز عن الأنماط المعرفية الأخرى بكونه يعمل على مستوى الشمولية والتجريد. إن التأكيد على مفهوم "النشاط" يشدد على أن التفلسف ليس غاية في حد ذاته (كحالة معرفية ثابتة)، بل هو مسعى مستمر نحو المعرفة الشاملة عن طبيعة التجربة ومعناها وقيمتها. هذه العملية الديناميكية المستمرة تضمن أن التفلسف لا يكون أبدًا نظامًا إبستيمولوجيًا نهائيًا أو مكتملًا بشكل مطلق، بل يظل قوة حيوية تدفع إلى التساؤل.
يتجسد نطاق التفلسف في الفروع الفلسفية الأساسية التي تعالج ثلاث قضايا جوهرية: نظرية الوجود (الأنطولوجيا) التي تدرس الوجود كما هو كائن؛ نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) التي تركز على كيفية معرفة الوجود؛ ونظرية القيم (الإكسيولوجيا) التي تتناول الوجود "كما ينبغي أن يكون". إن اشتمال نظرية القيم ضمن صميم النشاط الفلسفي ليؤكد أن التفلسف لا يمكن أن يكون مجرد تحليل محايد إبستيمولوجيًا. فالبحث عن المعنى متصل اتصالاً وثيقًا بالبحث عن القيمة، مما يجعل الأخلاق والبحث عن المعايير جزءًا ضروريًا وأساسيًا من أي تفلسف أصيل.
أما منهجيًا، فإن التفلسف يعتمد على منهج استدلالي مضمونه الانتقال من مقدمات عقلية إلى نتائج عقلية، ويتصف بخصائص أساسية تشمل العقلانية، والمنطقية، والنقدية، والشك المنهجي. هذا النمط من التفكير العقلاني يسعى إلى تحديد العلاقة بينه وبين أنماط التفكير الأخرى، وليس إلغاءها أو التناقض معها. وتعود الدلالة الأصلية للمصطلح إلى اللفظ اليوناني (فيلوسوفيا) أي محبة الحكمة، وهو تمييز أسسه الفلاسفة (مثل سقراط) ليميزوا بين هذا الحب المتواضع للمعرفة وادعاء الحكمة المطلقة (كما عند السفسطائيين).
التشريح المفاهيمي: الجدلية الأساسية بين المعنى والفهم
تنشأ علاقة وطيدة بين العقل الإنساني ومطلب الحقيقة، حيث يعتمد العقل على مجموعة من الآليات العقلية، أبرزها آلية الفهم، التي تُعد الطريق الأساسي نحو إدراك المعنى، سواء كان معنى للأفكار، أو الأشياء، أو الحياة بأكملها. ضمن هذا السياق المعقد، تولد جدلية عميقة بين المعنى والفهم، تتجلى معالمها في الوظيفة المزدوجة التي يؤديها المعنى تجاه الفهم:
سجن الفهم: يحدُث هذا عندما يُقيّد المعنى الفهم، جاعلاً إياه محبوسًا ضمن آليات أخرى مثل التفسير والتأويل المسبق، والتي قد تهدف إلى نفس هدف الفهم لكنها لا تمنحه استقلاليته الكاملة. هذا الانحباس يظهر مثلاً في التضييق المفرط لمفهوم المعنى في بعض المدارس الفلسفية (كالوضعية المنطقية) التي تربط المعنى بالصدق القابل للقياس التجريبي حصرًا.
تحرير الفهم: يتمثل هذا الجانب في قدرة المعنى على تحرير الفهم من سجن الآليات التفسيرية التقليدية، مما يسمح له بالاستقلالية والتوجه نحو الكليات والعموميات.
إرادة المعنى والدوافع الوجودية
يُلاحظ أن الانطلاق الإبستمولوجي للتفلسف، الذي يبدأ بالدهشة وطرح سؤال "لماذا"، يتحول مباشرة إلى سؤال "ماذا يعني"؛ مما يبرهن على أن المعنى ليس مجرد نتيجة تُكتشف بعد التفكير، بل هو الطاقة الوجودية الكامنة التي تشعل شرارة الدهشة في المقام الأول. ومع ذلك، لا يمكن فصل هذا المسعى الابستمي عن جذوره الأنطولوجية؛ إذ يظل التركيز على الوجود الإنساني الحي هو البؤرة التي ينبع منها البحث عن المعنى والقيمة.
فقدان المعنى كحافز سلبي للتفلسف
يؤكد التحليل الوجودي على أن فقدان المعنى يمثل دافعًا سلبيًا قويًا نحو التفلسف. فعدم إيجاد غاية للحياة يؤدي إلى حالة من الفراغ الوجودي، والذي يتم تعويضه بسلوكيات تعويضية سلبية أو انفعالات مدمرة. يشير التحليل النفسي الفلسفي إلى أن فقدان الثقة بالمستقبل يقضي على إرادة الحياة، ويؤدي إلى انهيار نفسي وجسدي، قد يصل إلى "الموت الانفعالي" أو التبلد. إن التفلسف، في هذا السياق، يعمل كآلية مقاومة أنطولوجية ضد هذا الاستسلام. فالإصرار على اختراق الوجود بحثًا عن المعنى هو تطلّع نحو الأمام وفرض للمسؤولية، مما يخلق دافعية داخلية للإبداع. هذا يثبت أن التفلسف ليس ترفًا فكريًا، بل هو شرط بقاء وجودي يحافظ على اليقظة العقلية والنفسية في مواجهة الفراغ.
التفكير النقدي كآلية منهجية
يُعد التفكير النقدي جوهر الفلسفة الحديثة والمعاصرة؛ فهو ليس مجرد سمة، بل هو "سداة ولُحمة" الفكر الفلسفي. إن تاريخ الفلسفة هو، في جوهره، تاريخ لتطور الفكر النقدي الذي بدأ مع الفلاسفة الطبيعيين الذين أسسوا التفسير على "اللوغوس" بدلاً من "الميثوس". التفكير النقدي هو عملية تحليلية تقويمية تهدف إلى تحسين التفكير ذاته. إنه يقتضي إخضاع جميع القضايا والمسلمات للمراجعة والتمحيص، حتى تلك التي يتم التوافق عليها. من أهم خصائصه أنه تفكير عقلاني، ومنطقي، وإمبيريقي. كما يتميز بكونه تفكيرًا انعكاسيًا (تفكير في الذات) ليتمكن من إصلاح طرقه وآليات اشتغاله. إن التوسيع الإبستمولوجي للفهم مرتبط ارتباطاً مباشراً بمبدأ. فالتفلسف النقدي يعني "أن أجهر وأجاهر بالحق في التفكير، وهو مرادف لحق الإنسان في عدم السماح لأي شخص بالتفكير نيابة عنه." ولذلك، فإن استقلالية الفكر المعتمدة على النقد تمثل تجسيداً للحرية الإنسانية في المجال المعرفي.
علاوة على المستوى الفردي، يمتد الشك المنهجي ليصبح آلية ضرورية للتجديد الحضاري. فقد أدت حالة الركود الفكري التي شهدها العقل العربي بعد وفاة ابن رشد إلى فجوة فكرية وتأخر حضاري. في المقابل، طورت الفلسفة الغربية مناهجها في التفكير المرتكزة على الشك والنقد، مما أفرز أنساقاً وتيارات عديدة ساهمت في نهضتها الحضارية. وبالتالي، فإن التفلسف النقدي هو العملية التي تكسر الجمود الفكري، وتستبدل التقليد بالابتكار، مما يُعد شرطًا أساسيًا لمجاراة التطور الحضاري.
السجن والتحرير في ضوء اللغة
اللغة وعوائق الفهم
لأن الفلسفة تسعى دائمًا لتجاوز الجزئي والتاريخي إلى الكلي والعام والإنساني، فإنها تعتمد على "العقل التأويلي" للعبور نحو الكليات النصية. لكن هذا العبور ليس خاليًا من العقبات.
أزمة الدلالة: مع ظهور النزعة التجريبية في الفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية التي رأت أن إطلاق حكم الصدق أو الكذب على الجملة متوقف على كونها ذات معنى يمكن التحقق منه، تساءل بعض الفلاسفة عن سر نمو اللغة بطريقة تجعلها تكمن في قلب المشكلة المعرفية.
اللغة كوسيط: تتكون المعرفة الإنسانية من أفكار ومفاهيم مصوغة برموز لغوية. ويصبح التفاهم ممكنًا فقط عندما يكون هناك اتفاق وتناسق بين الرموز التي تُنقل إلى الآخرين. هذا يضع اللغة كوسيط حاسم بين المحور الأنطولوجي (المعنى) والمحور الإبستمولوجي (الفهم).
التحدي المعاصر: إن أزمة التفلسف المعاصرة تتركز في كيفية ضمان أن يظل هذا الوسيط قادرًا على نقل المعنى المتسامي دون الوقوع في التجريد أو النقد المفرط.
إن هذا النشاط الفلسفي المزدوج (البحث عن المعنى وتوسيع الفهم) هو عملية مستمرة لإعادة تعريف الوضع الإنساني. تحديد غاية الإنسان (عبر المعنى) وقدراته (عبر الفهم) يحصّنه ضد الاختزال المادي أو الرقمي في العصر الحديث. وفي العصر الحديث، يتجلى الدور الأساسي للفلسفة في وضع المشكلات التي يطرحها فك أسرار الوراثة البشرية، والتحديات التي يفرضها تطويرها، وهي التحديات التي ساهمت في تطور واقع الإنسان فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا. وفي المقابل، أدى ركود العقل في حقب معينة إلى عجز حضاري وصدمة ثقافية. وهذا يؤكد أن التفلسف ليس مجرد تفكير نظري منعزل؛ بل هو محرك للتنمية الشاملة.
إن الفهم النقدي، المدعوم بالشك المنهجي، هو أداة التحرير التي تكسر سجن المعاني الجاهزة والمسلمات القديمة، وتسمح للفرد بالدفاع عن حقه في التفكير المستقل. ولكن هذا التحرير يجب أن يكون موجهًا، وإلا فقد يتحول إلى تجريد باهت. لذلك، فإن التفلسف الحق يستلزم الموازنة بين ضرورة البحث عن المعنى المتسامي (وجوديًا)، والذي يمنح الحياة قيمة وهدفًا متجاوزًا للذات، وضرورة الصرامة المنهجية والنقدية (إبستيمولوجيًا) التي تحمي الفكر من الوقوع في الخرافة أو التقليد. يجب على التفلسف أن يعيد الانخراط الجاد مع القضايا الأخلاقية والاجتماعية الملحة، بدلاً من الاقتصار على الميتافيزيقا الصرفة. إن العودة إلى مفهوم "الحكمة العملية" تضمن أن التفلسف يخدم غايات مجتمعية ملموسة.
تبني الشك كآلية للتجديد
يجب النظر إلى الشك المنهجي باعتباره محفزًا أساسيًا للنهضة الفكرية والإنتاج الحضاري المستقل، وكسر أي حالة من الجمود الفكري التي تعيق مجاراة التطور.
***
غالب المسعودي
........................
مصادر:
alhiwarmagazine.blogspot.com
almultaka.org
almothaqaf.com
anfasse.org
ar.wikipedia.org
asjp.cerist.dz