أقلام فكرية
حمزة مولخنيف: في امتحان العقل المعاصر
الفلسفة بين أنقاض التفكيك وإمكانات المعنى في زمن الخوارزمية
لم يكن العقل عبر تاريخه الطويل، معطى بسيطا أو جوهرا مستقرا خارج شروط الصراع والتحول، بل ظل دوما موضع توترٍ معرفي، تتنازعه أنماط متعددة من الفهم والتوجيه والتأويل. وقد لا تكون لحظتنا الراهنة إلا إحدى أكثر هذه اللحظات كثافةً وحساسية، إذ يجد العقل نفسه واقعا بين مسارين متعارضين في الظاهر، متواطئين في العمق: مسار التفكيك الفلسفي الذي زعزع يقينياته الكلاسيكية، ومسار الخوارزميات الذي يهدد باختزاله إلى وظيفة حسابية، أو إلى مجرد آلية لمعالجة المعطيات. في هذا الأفق، يفرض سؤال المعنى نفسه لا بوصفه سؤالا نظريا معزولا، بل باعتباره رهانا وجوديا يمسّ موقع الفلسفة وقدرتها على الاستمرار في عالم تحكمه السرعة والنجاعة والتنبؤ.
لقد ارتبط المشروع الفلسفي الحديث منذ ديكارت، بمحاولة إعادة تأسيس العقل بوصفه أصلا للمعرفة وضامنا لليقين. لم يكن الكوجيتو مجرد صيغة إبستمولوجية، بل كان إعلانا عن سلطة جديدة، تجعل من الذات المفكرة مركزا لإضفاء المعنى وتنظيم العالم. غير أن هذه المركزية لم تلبث أن خضعت لامتحان النقد الكانطي، الذي سعى إلى إنقاذ العقل من أوهام الميتافيزيقا، مقابل إخضاعه لشروط صارمة تحدد مجال اشتغاله وحدود فعاليته. ومع هيغل بلغ العقل ذروة ثقته بنفسه، حين تماهى الفكر مع التاريخ، وأضحت الواقعية والعقلانية وجهين لحركة واحدة، تكاد تلغي المسافة بين المفهوم والوجود.
غير أن هذه الثقة لم تصمد طويلا أمام التحولات العميقة التي شهدها الفكر الغربي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فقد جاءت قراءات نيتشه وماركس وفرويد لتقوّض التصور الكلاسيكي للعقل، وتكشف هشاشته البنيوية. ولم يعد العقل سيدا مطلقا لذاته، ولا مرآة شفافة للعالم، بل أضحى مشروطا بإرادات خفية، وبنيات اقتصادية، ودوافع لاواعية، جعلته أقرب إلى واجهة تنظيرية منه إلى سلطة تحررية. ومنذ تلك اللحظة، دخل العقل مرحلة الشبهة، ولم يعد يُستقبل باعتباره أفقا للانعتاق، بل باعتباره أداة ضبط وإنتاج للامتثال.
ومع التحولات التي عرفها الفكر المعاصر، خاصة مع البنيوية وما تلاها، بلغ هذا المسار التفكيكي مداه الأقصى. ولم يعد السؤال منصبا على مضمون المعرفة، بل على شروط إنتاجها، وآليات تشكّل الخطابات التي تمنحها شرعية الحقيقة.
أعلن فوكو أن الإنسان ليس حقيقة أنطولوجية ثابتة، بل حادثة معرفية تاريخية، نتجت عن ترتيب مخصوص للخطابات، وهي قابلة للاضمحلال متى تبدّلت شروط إنتاجها.
وذهب دريدا إلى زعزعة كل مركز دلالي، كاشفا أن المعنى لا يستقر، وأن الحضور ذاته مؤجل داخل لعبة الاختلاف. إذ لم يعد العقل ذاتا مؤسسة، بل أثرا داخل شبكة من العلامات، ولم يعد المعنى مقصدا نهائيا، بل حركة لا تنتهي من الإرجاء.
غير أن هذا التفكيك على ضرورته النقدية، انطوى على مفارقة عميقة. فبينما كان يهدف إلى تحرير الفكر من أوهام المطلقات، أسهم من حيث لا يحتسب، في تهيئة الشروط لنمط جديد من العقلانية، إذ لا يطالب بالمعنى ولا بالمساءلة، بل يكتفي بالحساب والتوقع. هنا تبرز الخوارزمية بوصفها علامة فارقة في تاريخ العقل، لا لأنها أداة تقنية فحسب، بل لأنها تمثل نموذجا جديدا للعقلنة، يقوم على تحويل الواقع إلى بيانات، والذات إلى ملف إحصائي، والفعل الإنساني إلى سلوك قابل للتنبؤ.
الخوارزمية من حيث هذا المنحى ليست بريئة ولا محايدة، بل تؤسس لنمط من التفكير يُفرغ العالم من كثافته الدلالية، ويعيد ترتيبه وفق منطق النجاعة. وقد كان هايدغر واعيا بهذا الخطر حين نبّه إلى أن جوهر التقنية لا يكمن في الآلات، بل في نمط الانكشاف الذي تفرضه، حيث يُختزل الوجود إلى مورد، ويُنظر إلى الكائنات من زاوية قابليتها للاستثمار والتحكم. وما كان تحذيرا أنطولوجيا صار اليوم واقعا معاشا، تُقاس فيه القيمة بما يُستخرج من المعطيات، وتُختزل الخبرة الإنسانية في أنماط سلوكية قابلة للقياس.
على حافة الانقلاب المعرفي الذي يفرضه زمن الخوارزميات، يبدو العقل الفلسفي وكأنه فقد وظيفته التاريخية. فما الحاجة إلى التأمل والتردد والشك، في عالم يُغري بالأجوبة الفورية؟ وما جدوى الفلسفة في زمن تُقاس فيه الحقيقة بالفعالية، والمعرفة بقدرتها على التحول إلى نموذج حسابي؟ أليس مشروعا والحال هذه، أن يُطرح السؤال الذي صاغه آلان باديو بصيغة جذرية: هل ما تزال الفلسفة ممكنة، بل هل ما تزال ذات ضرورة؟.
غير أن هذا السؤال يفترض في عمقه، تصورا اختزاليا للفلسفة، يحصرها في وظيفة معرفية تنافس العلوم أو التقنيات. والحال أن الفلسفة في تقاليدها الكبرى، لم تكن يوما علما بالمعنى الوضعي، ولا أداة لحل المشكلات، بل ممارسة نقدية تسائل البداهات، وتحرس المعنى من الابتذال. كانت عند سقراط، تمرينا على العيش الحق، وعند كانط نقدا لشروط الإمكان، وعند هابرماس دفاعا عن العقل التواصلي في مواجهة العقل الأداتي. الفلسفة لا تُقاس بسرعة إنتاجها، بل بقدرتها على إبطاء الزمن الفكري، وفتح الأسئلة التي يسعى العصر إلى إغلاقها.
في ضوء هذه التحولات الجذرية التي يفرضها زمن الخوارزميات، يمكن النظر إلى زمن الخوارزميات لا بوصفه إعلانا عن نهاية الفلسفة، بل باعتبارها اختبارا جديدًا لإمكانها. فحين يُختزل العقل إلى حساب، يصبح التفكير في ما لا يُحسب فعل مقاومة. وحين يُختزل الإنسان إلى معطى، يغدو السؤال عن الكرامة والحرية والمسؤولية سؤالا فلسفيا بامتياز. وقد أصاب هابرماس حين حذّر من استعمار العالم المعيش بمنطق النسق، حيث تُفرغ التجربة من معناها لصالح عقل لا يرى إلا ما يمكن ضبطه.
إن إعادة بناء العقل في هذا السياق، لا تعني استعادة ميتافيزيقا يقينية، ولا إعادة إنتاج أوهام الذات السيادية، بل تعني استرجاع البعد التأويلي والنقدي للعقل. عقل يعترف بتناهيه دون أن يستقيل، ويقر بتعدديته دون أن يتنازل عن مطلب الحقيقة، وينفتح على التقنية دون أن يذوب في منطقها. عقل يدرك مع بول ريكور أن الذات لا تُعطى جاهزة بل تُفهم، وأن الفهم لا ينفصل عن السرد والمعنى.
لهذا تظل الفلسفة رغم كل خطابات الأفول قادرة على إنتاج معنى، لا بمعنى تقديم أجوبة نهائية، بل بمعنى إبقاء السؤال حيا. فالمعنى لا يُستهلك، بل يُبنى داخل توتر دائم بين الواقع والممكن، وبين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وفي عالم يتسارع على نحو محموم، قد تكون الفلسفة هي الفضاء الأخير الذي يسمح للإنسان بأن يتوقف، لا ليهرب من العصر، بل ليعيد التفكير فيه ومن داخله.
ليس هذا التوقف ترفا نظريا، بل شرطا أخلاقيا ومعرفيا. فبدون فلسفة يتحول العقل إلى أداة، والتقنية إلى قدر، والإنسان إلى تابع لمنظومات لا يفهم منطقها ولا يمتلك مساءلتها. أما بالتفلسف فإن العقل يستعيد قدرته على التفكيك من أجل إعادة البناء، لا لبناء أوهام جديدة، بل لصياغة معنى قابل للعيش في عالم لم يعد يمنح المعنى مجانا.
ليس امتحان العقل في زمن الخوارزمية امتحانا تقنيا في جوهره، بل هو امتحان أخلاقي ومعرفي يمسّ صورة الإنسان عن ذاته، وحدود ما يقبل تفويضه للآلة، وما يصرّ على تحمّل مسؤوليته فيه. فحين تُدار الحياة بمنطق التنبؤ، ويُعاد تشكيل الاختيارات قبل أن تُعاش، يغدو السؤال الفلسفي ضرورة لا غنى عنها، لا بوصفه بحثا عن يقين مفقود، بل بوصفه فعل يقظة يحول دون انزلاق العقل إلى الامتثال الصامت.
إن الفلسفة لا تقف موقف الرفض ولا موقف التمجيد، بل تمارس وظيفتها النقدية في مساءلة ما يبدو بديهيا، وكشف ما يتوارى خلف خطاب الكفاءة والحياد. فهي وحدها القادرة على إعادة فتح سؤال المعنى حين يُختزل الوجود في الأداء، وعلى الدفاع عن الإنسان حين يُعاد تعريفه وفق منطق البيانات. وليست مهمتها أن تنافس الخوارزميات في السرعة أو الدقة، بل أن تذكّر بأن ما لا يُحسب هو في كثير من الأحيان ما يمنح الحياة قيمتها.
إن إعادة الاعتبار للعقل لا تعني استعادة أوهام السيادة ولا بناء مركز متعالٍ جديد، بل تستلزم الاعتراف بتناهي التفكير مع الحفاظ على قدرته النقدية، وبانفتاح المعنى دون التخلي عن مطلب الحقيقة. عقلٌ يدرك أن التقنية أفق من آفاق الوجود الإنساني، لا قدرا مغلقا، وأن الخضوع لمنطقها الشامل ليس حتمية تاريخية، بل خيارا قابلا للمساءلة.
وفي ضوء ما سبق من تأملات، نقول إن الفلسفة لا تعلن نهايتها في زمن الخوارزميات، بل تجد فيه سببا جديدا لتجديد أسئلتها، والدفاع عن حق الإنسان في المعنى وفي الصواب وفي الخطأ. فحيثما يُراد للعقل أن يتحول إلى أداة، تظل الفلسفة حارسةً لإمكان أن يظل العقل تفكيرا لا مجرد حساب.
***
د. حمزة مولخنيف






