أقلام فكرية

حمزة مولخنيف: المعرفة كحركة وجودية.. نحو تجاوز التراكم المفاهيمي

في رحاب الفكر الإنساني تتعالى أسئلة لم تفارق العقل منذ انبثاق الوعي على ذاته: ما طبيعة المعرفة؟ هل هي مجرد رصيد من المفاهيم والأفكار، أم هي مسار وجودي لحركة داخلية نحو إدراك الذات والعالم؟ لقد شغلت هذه الإشكالية عقول الفلاسفة منذ سقراط، الذي لم يرَ الحكمة في التراكم المعرفي، بل في الحوار والبحث الدائم عن الحقيقة، إذ أعلن: «أنا أعلم أني لا أعلم»، دالا على أن حدود المعرفة ليست في الكم، بل في العمق، وفي تجربة الإنسان لذاته وللوجود.

إن النظر إلى المعرفة على أنها تراكم مفاهيمي يغفل جوهرها الأعمق: فهي ليست سلّة تحفظ فيها المفاهيم كما تُجمع البضائع، ولا سجلا يُرقم فيه المعارف، بل هي حركة حية، واستجابة للوجود وتجربة دائمة تُصقل روح المتلقي وتعيد تشكيل عالمه الداخلي. إذا كان كانط قد حدَّد المعرفة ضمن أطر العقل، فإن فهمه هذا وإن كان ثاقبا يبقى محصورا بما يمكن للعقل أن يحصره ويصنّفه، متناسياً أن المعرفة في جوهرها تجاور الحس وتختبر الحياة، وتستشعر العالم ليس بالقوانين المجردة فحسب، بل من خلال نبض التجربة الإنسانية نفسها.

ها هنا يتجلى الفرق بين تراكم المفاهيم وتجربة المعرفة: فالأولى تظل في مستوى الشكل، بينما الثانية تنبني في العمق، وتفتح أفقا لا نهائيا لتفسير الذات والعالم. كما يقول هايدجر: «الوجود يسبق الفهم»، أي أن الإنسان قبل أن يحوز على أي مفاهيم، يواجه العالم بوجوده الأصيل، ويعيش التجربة كما هي، ويختبر أبعادا لا تحتمل التحليل المفاهيمي وحده. المعرفة هنا ليست جمع معلومات، بل الانفتاح على ما هو متعذر إدراكه بالكلمة، على ما يفيض من معنى الحياة خارج قوالب الفكر الجامدة.

يمكن اعتبار تجربة المعرفة نوعا من الغوص في الذات، لا كمعجم من الحقائق، بل كرحلة استكشاف دائمة، رحلة تتسم بالغموض، وتتجاوز حدود اللغة والمنطق. كما قال ميرلو بونتي: «الجسد هو المكان الأول للمعرفة»، مشيرا بذلك إلى أن تجربة المعرفة تبدأ في التجربة الحسية والوجودية في لحظات التفاعل المباشر مع العالم، قبل أن تتحول إلى مفاهيم يُعاد ترتيبها وتحليلها. هذه الرؤية تضع المعرفة في قلب الوجود، لا كشيء خارجي يُضاف للروح، بل كنبض داخلي يعيشه الإنسان لحظة بلحظة.

لقد شكّل هذا التصور تحولا جذريا في فهم الإنسان لنفسه وعلاقته بالعالم. بينما يركّز التقليد على تراكم المفاهيم، يركّز الفكر الوجودي على اختبار المعرفة أولا، ثم إعادة صياغتها دوما في ضوء التجربة. التجربة ليست مجرد وسيلة للوصول إلى الحقيقة، بل هي الجوهر ذاته، تمنح المعنى لكل مفردة ولكل مفهوم، فتتحول المعرفة من فكرة إلى فعل وإدراك حي ووجود متألق في صميم الحياة.

ولا يمكن الحديث عن هذا التحول دون الإشارة إلى سقراط مرة أخرى، فهو يجسد الإنسان الباحث عن معرفة تتجاوز المفهوم الجامد، معرفة تُحفر في النفس قبل أن تُسجَّل على الورق، معرفة تُختبر في الحوار ومواجهة الذات، وفي التساؤل المستمر عن معنى العيش والعدل والجمال وعن الخير. هكذا تصبح المعرفة تجربة متصلة بالوجود، لا مجرد حصيلة عقلية، فتغدو حياة الإنسان نفسها انعكاسا لهذه العملية، حياة تحياها الروح قبل أن يعيها العقل.

يكتسب مفهوم الحكمة بعدا آخر، فهو لا يُحصر في تراكم المعلومات، بل في القدرة على تحويلها إلى تجربة، إلى إدراك يتجاوز الشكل، وإلى تفاعل مع الذات والعالم. وكما أشار نيتشه، فإن المعرفة بلا تجربة لا تعدو أن تكون قوةً ميّتة: «ما لا يقتلنا يجعلنا أعمق»، فالخبرة الحقيقية تأتي من مواجهة الحياة، من تجربة الألم والفرح والشك والدهشة، وكل ما يجعل الإنسان حاضرا في لحظة وجوده، حاضراً في صيرورة العالم نفسه.

تتضح خيوط هذه الفكرة حين نعي أن المعرفة ليست مجرد إضافة مفاهيمية، بل عملية وجودية وحركة مستمرة، وتجربة تصوغ الإنسان والعالم معا. إنها ليست ملكا للعقل وحده، بل امتداد للجسد والروح والتجربة الحية، لكل لحظة يختبر فيها الإنسان ذاته والعالم من حوله. وهنا يظهر جوهر التباين بين المعرفة التقليدية التي تسعى لتجميع المعارف، والمعرفة الوجودية التي تسعى لتجربة الحياة نفسها. الأولى تُسجل والثانية تُعاش. الأولى ثابتة والثانية متحركة حية، تنمو في صميم الوجود، وتتغير مع تغير الإنسان والعالم.

إن هذا المنظور يعيد تعريف المعرفة كحركة مستمرة، كإرادة متجددة للمعرفة الذاتية والوجودية، لا كحافظة للمعلومات. فالإنسان الذي يسعى للمعرفة كتجربة وجودية يعيش دائما بين السؤال والبحث، والشك والتجربة، وبين العدم والإمكان، ويعرف أن كل اكتشاف جديد ليس نهاية، بل بداية لفهم أعمق ورؤية أشمل وتجربة أوسع. نستحضر هنا هيغل، الذي رأى أن الفلسفة ليست مجرد تحليل للأفكار، بل حركة الروح نحو إدراك ذاتها، حركة متواصلة نحو تحقق الوعي، حيث تتحقق الحقيقة في صيرورة التجربة، لا في تراكم الكلمات والمفاهيم.

تتضح أهمية تجاوز البنى التقليدية للمعرفة. حين تُفهم المعرفة بوصفها تراكما مفاهيميا حيث تصبح جامدة عاجزة عن التقاط لحظات الوجود الحية. أما حين تُفهم بوصفها تجربة وجودية، فإنها تنبض بالحياة وتصبح مرنة متجددة، قادرة على مواكبة تحولات الذات والعالم، قادرة على إعادة تعريف الإنسان لنفسه في كل لحظة، وفي كل مواجهة مع الواقع.

إن المعرفة ليست أداة جامدة بل فعل حي وحركة مستمرة وتجربة وجودية تتجاوز حدود العقل والمنطق، وتختبر المعنى في أعمق أبعاده. وهي بذلك تصير جزءا لا ينفصل عن حياة الإنسان، جزءا من وعيه وشعوره وإدراكه ومن صيرورته في العالم. إنها تجسيد للحياة نفسها، وعنوان لكل سؤال يتردد في عمق الوجود ولكل لحظة تأمل ولكل تجربة حقيقية، حيث يلتقي الإنسان بالذات والعالم، ويتجاوز التراكم المفاهيمي ليصل إلى جوهر الحقيقة الحية.

إذا كانت المعرفة بوصفها تجربة وجودية تتجاوز التراكم المفاهيمي، فإن أفقها يتسع ليشمل الانفتاح على اللغة والجسد والزمان والوعي الذاتي، بحيث تصبح كل لحظة تجربة فردية حلقة متصلة في سلسلة من الوعي الذي يعي ذاته والعالم في آن واحد. فاللغة هنا ليست مجرد أداة لنقل المفاهيم، بل هي مكان التقاء الوجود بالوعي، حيث ستعتبر وسيلة لتأمل التجربة وتشكيلها في صورة يمكن للعقل أن يلتقطها، دون أن تحصر جوهرها الحيوي. كما لاحظ هايدجر: «الكلمة هي منزل الوجود»، فهي تعكس البنية العميقة للتجربة، لكنها لا تحتضنها بالكامل، إذ يظل جزء منها هاربا من اللغة، متجذرا في التجربة المباشرة وفي الصيرورة الحسية والوجودية للذات.

في هذا الإطار يكتسب الجسد بعدا معرفيا فريدا. حيث يرى ميرلو بونتي أن الجسد ليس مجرد أداة مادية للتحرك أو للتفاعل مع العالم، بل هو وسيط المعرفة الأول، إذ من خلاله تعيش الذات تجاربها وتختبر حدودها وقدرتها على فهم العالم. المعرفة من هذا المنحى ليست مجرد تصور عقلي، بل تجربة تنسج بين الإدراك الحسي والوعي الداخلي، وبين الحركة والتأمل والفعل والانفعال. كل شعور وتحسس، وكل إدراك لحركة العالم، وكل حضور للذات في الزمان والمكان، يضيف بعدا جديدا لمعنى المعرفة ويؤكد أن الحقيقة الحية لا تستقر في المفاهيم وحدها، بل تنبض في التجربة الحية التي تسبقها وتفوقها.

يظهر البعد الزمني للمعرفة كخبرة وجودية بجلاء. فالوعي بالزمن ليس مجرد قياس لحظات متتالية، بل إدراك للصيرورة المستمرة للذات في مواجهة العالم. كما يرى هايدجر، فالزمن أفق الوجود الذي يمكن الإنسان من فهم ذاته ضمن التجربة الحية، ومن إدراك المعنى المتغير لكل حدث ولشعور ولحظة في صيرورة الحياة. المعرفة هنا لا تُحفظ ولا تُسجَّل كما تُسجل السجلات الزمنية، بل تُختبر وتُعاش وتتحول مع مرور الزمن، فتتغير نظرة الإنسان للعالم ولنفسه ويكتشف أن كل معرفة جديدة ليست استكمالا للسابقة فحسب، بل إعادة صياغة للحياة نفسها وتجديدا لفهم الذات.

التجربة الوجودية للمعرفة تنطوي على مواجهة مستمرة مع الشك، فالمعرفة الحقيقية لا تتحقق إلا حين تتحدى الذات نفسها، حين تعيد النظر في مفاهيمها وأحكامها السابقة وتواجه العدم والفراغ واللامعنى، لتستخلص من هذه المواجهة معنى جديدا للحياة. كما قال نيتشه: «لا توجد حقائق، بل تفسيرات»، أي أن المعرفة ليست كشفا لمعلومة ثابتة، بل عملية مستمرة لإعادة تفسير الواقع والذات، وإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والعالم في أفق دائم من الفهم المتغير والمتحول.

تتداخل عناصر التجربة الوجودية للمعرفة: الشك، التجربة، الزمن، الجسد، واللغة، لتخلق مساحة معرفية لا يمكن للعقل وحده أن يحصرها. المعرفة ليست ملكا للمنطق الصوري، ولا للمفاهيم المجردة، بل هي ملك للوجود ذاته، تجربة تتشكل في لحظة الإدراك، وتتحرك مع الصيرورة المستمرة للوعي. محاولة حصر المعرفة في تراكم المفاهيم تشبه محاولة حصر البحر في دلو، فهي تبقيها جامدة، بينما هي في جوهرها حركة تدفق وتجربة حية لا تنقطع.

ويبرز بعد أخلاقي للمعرفة، فهي مرتبطة بالمسؤولية والحرية وبالقدرة على الاختيار. الإنسان هنا لا يكتفي بأن يكون متلقِّيا للمفاهيم، بل يصبح فاعلا في بناء فهمه للعالم، مدركا أن كل تجربة تضيف له بعدا جديدا، وأن كل لحظة إدراك هي لحظة حرية ومسؤولية ومواجهة بين الذات والوجود. وكما قال سارتر: «الإنسان محكوم بالحرية»، أي أن المعرفة الوجودية تمنح الإنسان القدرة على إعادة صياغة ذاته باستمرار، وتضعه أمام مسؤولية دائمة عن فهمه وعلاقته بالعالم.

التجربة الحسية والوجدانية تلعب دورا محوريا، فهي أساس إعادة بناء المعنى. كما قال هيغل: «الروح تتحقق في صيرورة وعيها»، أي أن الإنسان يكتشف الحقيقة في تحركه داخل العالم وفي تفاعله مع الحياة، وليس في تراكم الأفكار فقط. كل شعور وتجربة ومواجهة تشكل نسيجا جديدا للمعرفة، تخلق سياقا فريدا للوجود وتفتح أبوابا لفهم أعمق للذات والعالم معا.

الخيال هنا ليس مجرد أداة للفكر، بل وسيلة لاستكشاف ما وراء الظاهر للغوص في أعماق التجربة، وللقاء المعنى في أبعاد يرفض العقل لمسها تقليديا. وكما قال كاسيرر: «الرمز هو لغة الروح»، أي أن القدرة على تصور ما هو غير مرئي، على تجربة ما هو مستحيل أو غير ملموس، توسع حدود المعرفة الحقيقية، وتجعلها تجربة متحركة، غنية، وعميقة.

المعرفة ترتبط ارتباطا وثيقا بالحرية، فالحرية ليست مجرد اختيار بين بدائل محددة، بل القدرة على مواجهة العالم، على إعادة صياغة الذات، على تجربة الحياة بأبعادها المختلفة، على الشك في كل ما هو مفترض، والتأمل في كل ما هو مألوف، وتجاوز قيود الفكر الجامد.

المعرفة كحركة نحو اللاحدود حين تتحول إلى تجربة وجودية تتجاوز أي حدود مسبقة، أي إطار مفاهيمي محدد، بمعنى تصنيف جامد. تتوسع مع توسع الوعي وتتغير مع تغير التجربة، وتتعمق مع مواجهة الذات والوجود، وتفتح آفاقا لا نهائية للتفسير والتأمل والفهم. نيتشه يشير هنا إلى السعي الدائم لتجاوز الذات، لتوسيع حدود الإدراك، لتجربة الحياة في أعمق أبعادها بعيدا عن أي قيود مفاهيمية أو عقلية.

المعرفة الوجودية متعددة الأبعاد: جسدية زمنية عاطفية لغوية روحية جماعية وخيالية. كل بعد يضيف طبقة جديدة للوعي، وكل تجربة تضيف معنى جديدا للوجود، وكل مواجهة مع الذات أو العالم تعيد تشكيل المعرفة نفسها. المعرفة ليست مجرد فكرة أو مجموعة مفاهيم، بل صيرورة حية وعملية مستمرة وتجربة لا تنتهي، وحركة ديناميكية تتفاعل فيها الذات مع العالم وتختبر فيها الروح حدودها، وتوسع أفق إدراكها للحياة وللوجود.

في هذه الصيرورة تصبح التجربة الوجودية للمعرفة تجربة للدهشة والريبة وللمساءلة الداخلية وللاكتشاف المستمر. فهي تجعل الإنسان حاضرا يقظا مدركا أن كل معرفة جزء من رحلة، وكل تجربة نافذة على معنى أوسع، وكل لحظة إدراك تحمل إمكانات لا حصر لها. المفارقة الجوهرية هنا، أن المعرفة الحقيقية ليست ما نحصل عليه بل ما نعيشه وما نختبره وما نصنعه في التجربة نفسها.

تصل المعرفة إلى أعمق مستوياتها حين تتحول إلى تجربة وجودية وحركة مستمرة وصيرورة تعيشها الذات مع العالم، حيث تصبح كل لحظة إدراك وشعور وتجربة وفعل، جزءًا من نسيج معرفي حي متجدد، لا يمكن اختزاله في مفاهيم جامدة أو تراكم معلوماتي. إنها المعرفة التي تلتقي فيها الفلسفة بالحياة، حيث يصبح السؤال والبحث والتجربة أداة للوجود، لفهم الذات وتجاوز حدود العقل والانفتاح على الوجود كما هو.

وعلاقة بما سبق يترتب عن هذا طرح سؤالين: هل المعرفة بوصفها تجربة وجودية مجرد حركة نحو شيء لا يمكن الإمساك به، أم هي اللحظة الحية التي يُختبر فيها الوجود ذاته، حيث تذوب الذات في العالم وتصبح جزءا من صيرورة الحياة بلا نهاية؟ وهل الإنسان يكتشف الحقيقة أم أن الحقيقة تتشكل فقط في فعل البحث وفي لحظة التجربة وفي حضوره الكامل وتفاعله مع الوجود الذي لا ينتهي؟

المعرفة هنا أكثر من مفهوم وأكثر من فكرة، وأكثر من تراكم مفاهيمي، حيث تصبح نبضا حيا للوجود، ورحلة مستمرة في أعماق الذات والعالم، حركة تتجاوز الكلمات والأطر، وتجربة تتجدد مع كل لحظة وتفتح أمام الإنسان أفقا من الغموض ومن الامتداد ومن الدهشة الوجودية التي لا تنتهي. المعرفة ليست نهاية بل بداية لكل سؤال ولكل تجربة ولكل مواجهة مع الوجود وبداية لحياة الفكر ورحلة للروح في صيرورة لا متناهية.

ثم إذا كانت المعرفة تجربة وجودية تتجاوز المفهوم، فهل يمكن للإنسان أن يدرك ذاته كاملة، أم أن الذات تتحول مع كل لحظة إدراك لتبقى دائما لغزا؟ وإذا كانت الحقيقة تنكشف فقط في فعل البحث والتجربة، فهل المعرفة النهائية مجرد وهم نسعى إليه أم لحظة مستمرة من الوجود تتجاوز كل محاولة للإمساك بها؟.

***

د. حمزة مولخنيف

في المثقف اليوم