أقلام فكرية

حمزة مولخنيف: العقل في مواجهة الحداثة.. من الأداتية إلى التواصُل

يبدو أن الحديث عن العقل في عصرنا الراهن لا يمكن فصله عن السياق العام للحداثة، تلك اللحظة الفاصلة التي أفرزت لنا تقنيات ومعارف غير مسبوقة، لكنها في الوقت نفسه كشفت عن مأزقها الأخلاقي والأنساني. فالعقل الحديث كما بلوره مفكرون كبار مثل كانط وهيجل، قد انطلق من فكرة نقدية لذاته، ومن الإيمان بقدرته على الوصول إلى المعرفة الموضوعية، لكن سرعان ما تحول هذا العقل إلى عقل أداتي، يقدّم للإنسان أدوات، ويمنحه قدرة على التحكم في الطبيعة وفي غيرها من البشر، لكنه في الوقت نفسه يغفل أبعاد التواصُل الأخلاقي والاجتماعي التي تُثري وجود الإنسان وتحقق له معنى. يشير هابرماس في هذا الصدد إن العقل الأداتي يتقوقع في المنظور العملي الفعلي، وينسحب من أفق الأسئلة الوجودية والقيمية، مشيرا إلى أن هذا الانزلاق يخلق ما سماه الحداثة المأزومة، حيث يصبح الفعل التقني والاقتصادي هو المقياس الوحيد للصواب والخطأ، بينما يضمحل الصوت الأخلاقي أو الاجتماعي في ضوضاء الإنتاج والتحكم.

إن العقل الأداتي ليس مجرد أداة معرفية، بل هو مشروع منظومي يحكم على كل شيء وفق معيار الكفاءة والفعالية. في هذا المنظور، تصبح المعرفة مجرد وسيلة لتحقيق هدف محدد، لا لاستكشاف أفق الحقيقة أو معنى الحياة. كانط نفسه أشار في كتابه "نقد العقل المحض" إلى أن العقل يحتاج إلى نقد دائم ليعرف حدوده، لكن الحداثة الحديثة أسست على فكرة أن العقل يمكن أن يصبح مستقلاً عن أي سلطة تقليدية، سواء كانت دينية أو سياسية، لتكون الكفاءة والنتائج العملية هما المقياس النهائي. ومع ذلك، فإن هذا الانحياز إلى العقل الأداتي يولّد فجوات في فهم الإنسان لنفسه وللمجتمع: فجوة أخلاقية وفجوة معرفية وفجوة وجودية. فالإنسان قد يتحكم في الطبيعة، لكنه يفقد القدرة على التواصُل الإنساني العميق، وقد يحقق المكاسب الاقتصادية والتقنية، لكنه يغفل حقيقة السؤال عن معنى هذه المكاسب أو عن القيم التي ينبغي أن تحكم استخدامها.

يتضح أن الفكر النقدي منذ هابرماس وصولاً إلى الفلاسفة المعاصرين، يتخذ موقفاً مضاداً من هذا التحول. فالعقل لا ينبغي أن يكون مجرد أداة، بل ينبغي أن يكون فضاءً للتواصل، حيث تُبنى الحقيقة عبر الحوار، وتُصان القيم عبر التفاعل الإنساني، وتُختبر النتائج وفق معايير أخلاقية وثقافية. هكذا يصبح العقل التواصلي استجابة لمأزق الحداثة، فهو يقيم بين الإنسان ومحيطه والفرد والمجتمع، وبين المعرفة والضمير. إن الانتقال من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي ليس مجرد تعديل منهجي، بل هو انقلاب في فهم العقل ذاته، من حيث كونه أداة للحكم والتحكم إلى كونه فضاءً للمساءلة المشتركة، حيث يلتقي الفكر مع الأخلاق، وتقترن المعرفة بالقيم، ويتحمل الإنسان مسؤولياته تجاه الآخر والعالم.

إن العقل الأداتي رغم ما أتاحه من إنجازات، لم يخل من ثمن باهظ. فالحربان العالمية والأزمات البيئية، والانحرافات الاقتصادية والاجتماعية، جميعها تعكس الأثر السلبي للعقل الذي فقد بعده التواصلي. يقول إيمانويل كانط في "السلام الدائم": "العقل وحده لا يكفي، إن لم يكن مصحوبا بالحكمة والضمير". ومن هنا، تأتي راهنية النقد الفلسفي، ليس فقط لمساءلة أدوات العقل، بل لمساءلة ما يجعل هذه الأدوات مأزومة. النقد الفلسفي في هذا الإطار، لا يعني مجرد الفحص النظري، بل الممارسة الأخلاقية التي تكشف حدود التفرد بالأدوات دون مسؤولية، وحدود المعرفة دون التزام. إنها دعوة لإعادة النظر في مشروع الحداثة ذاته، ومحاولة إعادة توازن بين الفعل والمعنى، بين الكفاءة والقيمة والتقنية والأخلاق.

يمكن النظر إلى مأزق الحداثة من خلال عدسة الفلسفة النقدية، التي ترى أن العقل الأداتي يتعامل مع العالم كما لو كان خاضعا بالكامل لسيطرته، متجاهلاً العلاقات الاجتماعية والثقافية التي تشكل الإنسان. فالحداثة الحديثة بوعودها بالحرية والمساواة والتقدم، لم تتوقع أن تتسرب إلى الفرد مفاهيم الصراع والفردية المفرطة، والتغريب عن الجماعة. يقول هيغل: "الحرية المطلقة في العقل لا تتحقق إلا عندما يُنظّم العقل في إطار الدولة والمجتمع"، وهذا التوازن الاجتماعي هو ما يفتقده العقل الأداتي، ويبحث عنه العقل التواصلي. فالعقل التواصلي يعيد الاعتبار لمفهوم الحرية كعلاقة، وليس مجرد قدرة على التحكم، ويعيد الاعتبار لمفهوم المعرفة كعملية مشتركة، وليست مجرد ملكية فردية أو أداة إنتاجية.

وفي هذا السياق، يصبح النقد الفلسفي راهنا أيضا في مواجهة العولمة المعاصرة، التي غالبا ما تعزز منطق العقل الأداتي على حساب العقل التواصلي. الاقتصاد العالمي والتقنيات الرقمية والثقافة الاستهلاكية، كلها تقيس القيمة بالقدرة على الإنتاج والاستهلاك، متجاهلة الأسئلة الأخلاقية والإنسانية الأساسية. وهنا، يظهر البعد الأخلاقي للعقل التواصلي، فهو لا يرفض التقدم أو التقنية، لكنه يطالب بمرجعية أخلاقية واجتماعية توجه هذه الإمكانات. كما تقول مارثا نوسباوم: "العدالة الحقيقية لا تتحقق فقط من خلال التنظيم القانوني، بل من خلال تنمية القدرة على التعاطف والتواصل بين البشر". العقل التواصلي هو العقل الذي يجعل من المعرفة والقدرة والفعالية وسيلة لتحقيق حياة مشتركة عادلة، لا مجرد أداة للهيمنة والتفرد.

ولا يمكن أيضا إغفال البعد الثقافي والفلسفي في هذا الانتقال. فالفكر النقدي الأوروبي منذ عصر التنوير وحتى ما بعد الحداثة، مر بتطورات متسارعة، من نقد كانط للعقل المطلق، إلى نقد هابرماس للعقل الأداتي، وصولاً إلى فلسفات النسوية والنظرية ما بعد البنيوية التي تسلط الضوء على العلاقات السلطوية والمعايير المهيمنة التي يحاول العقل الأداتي فرضها على الواقع. فالنسوية على سبيل المثال، كشفت أن العقل الأداتي غالبا ما يغفل الاختلافات والتجارب الإنسانية المتنوعة، ويختزل القيم إلى مقاييس واحدة، بينما العقل التواصلي يعترف بالاختلاف، ويستند إلى الحوار والتبادل بين وجهات النظر المختلفة. تقول جوديث بتلر: "المساءلة الأخلاقية تبدأ عندما نسمع الآخر، لا عندما نحكم عليه"، وهذا بالضبط ما يميز العقل التواصلي عن العقل الأداتي، فالأول يقوم على استيعاب الآخر، بينما الثاني يقوم على السيطرة والتحكم.

إن الانتقال من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي ليس مفهوماً نظرياً فحسب، بل له انعكاسات عملية واضحة في الحياة السياسية والاجتماعية. فالأدوات التقنية، مهما كانت متقدمة، لا تحقق العدالة أو المشاركة أو الديمقراطية إذا لم تُدرج ضمن منظومة تواصلية تشرك الجميع في القرار والتقييم. والعقل التواصلي يفرض التفكير في شروط الشفافية والمساءلة والمشاركة، ويطرح السؤال عن الحد الفاصل بين الكفاءة والعدالة، وبين الحرية الفردية والمسؤولية الجماعية والمعرفة والسلطة. ومن هذا المنظور، يصبح النقد الفلسفي أداة راهنية، لأنها تجعلنا نسائل مشاريع الحداثة من الداخل، وتكشف عن التناقضات بين وعود التقدم وبين النتائج الفعلية على الإنسان والمجتمع.

أما على مستوى الوعي الذاتي، فإن العقل التواصلي يحفز الفرد على إعادة النظر في مكانه في العالم، وفي علاقته بالآخر، وفي دوره في تحقيق معنى وجوده. فالإنسان المعاصر، رغم ما يمتلكه من أدوات معرفية وتقنية، كثيراً ما يشعر بالغربة والاغتراب، وهو إحساس يراه هابرماس وميشيل فوكو نتيجة لعلاقات السلطة والمعرفة التي يغفل فيها العقل الأداتي البعد التواصلي. إن العقل التواصلي يفتح أمام الإنسان مساحة للتمكين الذاتي ليس بمعنى السيطرة، بل بمعنى الفهم والمشاركة والمسؤولية. كما يذكّرنا جان بول سارتر بأن الحرية الفردية لا تتحقق إلا من خلال الاعتراف بالآخر ومشاركته في بناء العالم، وهذا الاعتراف لا يكون إلا من خلال عقل تواصلي قادر على الحوار والمساءلة المشتركة.

إن العقل الأداتي قد أفرز إمكانات هائلة، لكنه في الوقت نفسه كشف عن مأزق الحداثة: قدرة الإنسان على التحكم في العالم الخارجي مقابل تراجع قدرته على التواصُل مع العالم الداخلي والآخرين. العقل التواصلي من جهته، يمثل محاولة نقدية لمواجهة هذا المأزق، فهو يعيد ترتيب العلاقة بين المعرفة والقيمة والقدرة والمسؤولية، وبين الفرد والمجتمع. النقد الفلسفي هنا ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة راهنية، لأنه يتيح للإنسان أن يعيد صياغة حداثته بما يجعلها أكثر إنسانية وأقل مأزومية، وأكثر قدرة على التفاعل مع التحديات الأخلاقية والثقافية والاجتماعية المعقدة.

إننا أمام سؤال وجودي ومعرفي في آن واحد، كيف يمكن للعقل أن يظل وسيلة للمعرفة والإبداع والتقدم، دون أن يصبح أداة للهيمنة والسيطرة والتقليص من قيم الإنسان؟ هذا السؤال ليس مجرد خاطرة فلسفية، بل هو محور نقد الحداثة بأكملها، وهو ما يجعل الفكر النقدي راهنا اليوم. فالتحول من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي يمثل ليس فقط تغييراً في الوظائف المعرفية، بل انقلاباً في فهم الإنسان لنفسه ولمجتمعه وللأفق الذي يحققه في العالم.

في مواجهة مأزق الحداثة، يبدو أن السؤال الأساسي لم يعد عن قدرة العقل على المعرفة فحسب، بل عن قدرته على توجيه هذه المعرفة بما يخدم الإنسانية، لا بما يهيمن عليها أو يحصرها في أفق الإنتاجية الفورية. العقل الأداتي، كما أشرنا سابقا، قد وفّر للبشرية أدوات هائلة للتحكم في الطبيعة وفي بعض جوانب المجتمع، لكنه في الوقت نفسه أعاد إنتاج نوع من الغربة الإنسانية: الإنسان قادر على صناعة العالم، لكنه عاجز عن فهم دوره الأخلاقي والاجتماعي في هذا العالم. هنا تتجلى أهمية العقل التواصلي، ليس فقط كتصحيح منهجي، بل كتحول وجودي وثقافي، يسمح بإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والآخر، وبين الفرد والمجتمع والمعرفة والقيمة.

إن العقل التواصلي يتجاوز حدود الفعل الأداتي عبر تثبيت قيم الحوار والمساءلة والمسؤولية المشتركة. فهابرماس في كتابه "نظرية الفعل التواصلي"، يوضح أن العقل الأداتي يتسم بـ"القدرة على التنبؤ والتحكم، ولكنه مقيد بالمنطق الداخلي للأدوات"، في حين أن العقل التواصلي "يسمح بتأسيس فهم مشترك، ويقيم معايير للصواب تتجاوز الأداة لتشمل العدالة والأخلاق". وهذا يعني أن الانتقال من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي ليس مجرد تعديل وظيفي في استخدام العقل، بل هو إعادة توجيه للغرض ذاته، العقل ليس مجرد تقنية للسيطرة، بل فضاء لإعادة التفكير في معنى الحياة والعدالة الإنسانية.

يتضح أن الحداثة المأزومة لا يمكن معالجتها بمجرد تحديث الأدوات أو تطوير المعرفة التقنية. فهي مأزومة لأنها تتجاوز حدود العقل الأداتي نفسه، فتنتج مشكلات لا يمكن حلها بالأدوات نفسها التي أنتجتها. الفقر، التفاوت الاجتماعي، الاستهلاك المفرط والكوارث البيئية، كلها أمثلة على نتائج العقل الأداتي الذي يركز على الإنتاجية والربح والكفاءة دون التفكير في عواقب هذه الإنتاجية على الإنسان والبيئة. ومن هنا تأتي راهنية النقد الفلسفي، لأنه يوفر آلية لمساءلة العقل ذاته، ولتوجيه المعرفة إلى أفق أوسع، لا يقتصر على النتائج المادية بل يشمل الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية.

يمكننا أن نرى هذا بوضوح من خلال تطور الفكر النقدي الأوروبي منذ القرن العشرين وحتى اليوم. ففلسفة ما بعد الحداثة، رغم انتقادها للحداثة وللإجماع الكوني على العقل الأداتي لم تكتف بالرفض، بل طرحت بدائل تركز على تعددية المعايير، وعلى أهمية الحوار بين الثقافات والفلسفات المختلفة. فميشيل فوكو على سبيل المثال، كشف كيف أن العقل الأداتي يمكن أن يصبح أداة للسيطرة والمعرفة المهيمنة، وكيف أن المعرفة التقنية لا تكون حيادية أبداً، بل مرتبطة بممارسات السلطة. ومن هنا، يكتسب العقل التواصلي راهنيته، فهو العقل الذي يعيد التوازن بين المعرفة والسلطة والفرد والمجتمع، وبين القدرة والمسؤولية.

وفي عالمنا المعاصر، تتجلى أهمية العقل التواصلي أيضا في السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية. فعلى سبيل المثال، الديمقراطيات الحديثة تواجه تحديات معقدة، انتشار المعلومات الرقمية، التفاوت الاقتصادي وتصاعد خطاب التطرف، كلها أمور تتطلب عقلا قادرا على التواصُل والحوار، وعلى تأسيس فهم مشترك بين المواطنين وصناع القرار. فالعقل الأداتي وحده، مهما كان فعالا في التنظيم والإدارة، لا يكفي لضمان العدالة الاجتماعية أو التوازن الأخلاقي. وهنا تأتي أهمية ما أشارت إليه مارثا نوسباوم، عندما أكدت على ضرورة بناء "قدرة التعاطف والخيال الأخلاقي"، أي العقل الذي يرى الآخر ويقدر موقفه ويعيد صياغة القرار بناءً على قيم مشتركة، لا مجرد حسابات إنتاجية.

إن العقل التواصلي يتجاوز الحدود التقنية ليصبح مشروعا أخلاقيا وثقافيا واجتماعيا. إنه العقل الذي لا يقتصر على السؤال عن الوسائل، بل يسائل الغايات، ويعيد التفكير في العلاقة بين الحرية الفردية والمسؤولية الجماعية. كما يشير هابرماس، فإن العقل التواصلي يخلق فضاءً عاما يتيح النقاش والمساءلة والاعتراف بالاختلافات، وهو فضاء يواجه مأزق الحداثة، ويصوغ من خلال الحوار معايير مشتركة للفعل والمعرفة. وهنا يتضح الفرق الجوهر بين العقل الأداتي والعقل التواصلي، الأول ينتج أدوات، والثاني ينتج معنى، الأول يحكم على النتائج، والثاني يحكم على العدالة، الأول يتوقع النجاح التقني، والثاني يتوقع التوافق الأخلاقي والاجتماعي.

وفي بعده العملي يمكن أن يترجم العقل التواصلي في مجالات متعددة، من التعليم إلى الاقتصاد، ومن السياسة إلى البيئة. في التعليم على سبيل المثال، العقل الأداتي يركز على تحصيل المعرفة والقدرة على الأداء، بينما العقل التواصلي يركز على الفهم النقدي والتفاعل بين المعلم والمتعلم، ويصوغ قيم المشاركة والمساءلة. في الاقتصاد، العقل الأداتي يقيس النجاح بالربح والنمو، بينما العقل التواصلي يقيس النجاح بالعدالة والتوازن الاجتماعي، ويعيد التفكير في آثار السياسات الاقتصادية على المجتمع والفرد والبيئة. في السياسة، العقل الأداتي يركز على التنظيم والإدارة والسيطرة، بينما العقل التواصلي يركز على المشاركة والحوار، ويعيد بناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات.

إن العقل التواصلي بهذا المعنى، ليس فقط بديلا للعقل الأداتي، بل هو ضرورة راهنية لمواجهة تحديات الحداثة المأزومة. فهو يوفر أدوات فكرية وأخلاقية لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والعالم، وبين الفرد والمجتمع والمعرفة والقيم. يقول جان بول سارتر: "الإنسان يصبح مسؤولا ليس فقط عن أفعاله، بل عن فهمه للعالم وللآخر"، وهذا يعني أن العقل التواصلي يربط المعرفة بالمساءلة الأخلاقية، ويعيد التفكير في الحداثة من الداخل، لا من الخارج فقط.

يمكن النظر إلى العقل التواصلي كاستجابة لثنائية التقنية والقيم التي هيمنت على الحداثة الأداتية. فالثنائية بين القدرة على الفعل والقدرة على الحكم كانت دائما مصدر مأزق الحداثة، الإنسان قادر على التحكم في الطبيعة، لكنه عاجز عن التحكم في معايير العدالة والإنصاف. العقل التواصلي يعالج هذا المأزق عبر تأسيس معيار معرفي وأخلاقي جديد، يسمح للفعل بالارتباط بالقيم، ويسمح للمعرفة بالارتباط بالمسؤولية. وهنا يتضح أن الانتقال من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي ليس مجرد تعديل في أدوات التفكير، بل تحول في البنية الفلسفية للعقل نفسه، من عقل يبحث عن السيطرة إلى عقل يبحث عن الفهم والمساءلة والعدالة.

وفي هذا السياق، تظهر أهمية الفلسفة النقدية المعاصرة التي تتبنى العقل التواصلي في مواجهة تحديات العولمة والتقنيات الرقمية والثقافات المتعددة. فالعقل الأداتي، في سياق الاقتصاد الرقمي مثلاً، قد ينتج خوارزميات قوية للتحكم في البيانات واتخاذ القرارات، لكنه لا يضمن العدالة أو التوازن الاجتماعي. العقل التواصلي بالمقابل، يطرح أسئلة حول الأثر الاجتماعي لهذه الخوارزميات، ويعيد النظر في قيم الخصوصية والإنصاف والمساءلة. وهكذا يصبح العقل التواصلي أداة لتوجيه الحداثة نفسها، لا مجرد وسيلة لمواكبتها.

وعلى مستوى الوعي الفردي، يعيد العقل التواصلي الإنسان إلى دوره الإنساني الكامل. فالغربة والانفصال عن الآخر، والتفاوت بين الفرد والمجتمع، كلها مشكلات تتغذى من العقل الأداتي. العقل التواصلي يفتح أمام الإنسان أفق الحوار الداخلي والخارجي، وأفق المسؤولية الفردية والجماعية، ويتيح له إعادة بناء معنى حياته بما يتوافق مع قيم العدالة والإنسانية. يقول هابرماس: "العقل التواصلي يربط الفعل بالمعنى، ويعيد التوازن بين المعرفة والمسؤولية"، وهو ما يعكس بوضوح الفرق بين الأداتية والتواصُل.

وفي البعد الثقافي والفلسفي، فإن العقل التواصلي يعيد الاعتبار للمجتمعات الغائبة عن مراكز القرار التقليدية، وللأصوات المهمشة في السياق المعرفي والسياسي. فهو يتيح الحوار بين الثقافات، ويقيم مساحات للاختلاف، ويعيد التفكير في المعايير العالمية للحداثة، بعيدا عن أحادية المنطق الأداتي. وهذا ما أكدت عليه فلسفة النسوية وما بعد البنيوية، من خلال تسليط الضوء على ضرورة إدماج الخبرات المتنوعة والاعتراف بالاختلاف، وعدم احتكار المعرفة والمعايير من قبل المراكز التقليدية للسلطة.

ولا يمكن إغفال البعد التاريخي للمأزق، فالحداثة المأزومة ليست حادثة عابرة، بل نتاج تراكمات فلسفية علمية اجتماعية وسياسية، حيث تداخلت أدوات العقل مع مفاهيم السلطة، وأصبح الفعل التقني مرتبطا بالسيطرة أكثر منه بالخدمة الإنسانية. العقل التواصلي إذن، يقدم رؤية متقدمة تعالج هذا التداخل عبر تأسيس علاقة متوازنة بين القدرة على الفعل والمعايير الأخلاقية والسيطرة والمسؤولية، وبين المعرفة والفهم الاجتماعي.

إن العقل التواصلي ليس رفاهية نظرية، بل ضرورة راهنية لمواجهة مأزق الحداثة. إنه يمثل استجابة فلسفية وأخلاقية وعملية لمأزق الإنسان المعاصر، حيث التقدم التقني والاقتصادي لا يكفي لملء الفراغات الإنسانية والاجتماعية. النقد الفلسفي هنا يظل أداة أساسية، لأنه يوفر الإطار اللازم لمساءلة العقل ذاته، ويعيد ترتيب العلاقة بين المعرفة والإنسان والفعل والقيمة بين الفرد والمجتمع.

إن العقل التواصلي ليس فقط محاولة لتجاوز مأزق الحداثة، بل مشروع إنساني كامل، مشروع يجعل من العقل وسيلة لفهم العالم بعمق لفهم الآخر بصدق، ولتحقيق العدالة والقيم المشتركة في سياق متغير ومعقد. إنه العقل الذي يربط النظر بالفعل والمعرفة بالمسؤولية والحرية بالالتزام والتقنية بالقيم. ومن هنا تظل راهنيته مستمرة، لأنه يوفر للفكر المعاصر أدوات لمواجهة التحديات الكبرى، سواء كانت اجتماعية سياسية بيئية أو ثقافية، مع ضمان أن تظل الحداثة صالحة للإنسان، لا مجرد أداة للتحكم فيه.

***

د. حمزة مولخنيف

في المثقف اليوم