أقلام حرة
ثامر الحاج امين: الماضي وشجونه

(الماضي) محطة ٌ مبكرة ومهمة ٌ في مسيرة حياتنا ولصيق بنا شئنا أم أبينا، والقفز عليه والتنكر له بمثابة خطيئة يصفها الشاعر رسول حمزاتوف في استهلال كتابه "بلدي" (اذا انت اطلقت نيران مسدسك على الماضي، أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك)، ولا غرابة ان تتعدد الأقوال والأوصاف بشأن الماضي ومنها التي تنصح أن لا تغوص فيه عميقا ولا تبالغ في حلمك بالمستقبل انما ركزّ على حاضرك وهي حكمة ترجمها الشاعر عمر الخيام في قوله (لا تشغل البال بماضي الزمان.. ولا بآت العيش قبل الأوان.. واغنم من الحاضر لذاته.. فليس في طبع الليالي الأمان)، ومن الطبيعي ان يتباين الناس في تقييمهم للماضي بحسب طبيعة الفترة التي عاشوا فيها وكذلك نتيجة الفارق الذي بينهم في المستوى الثقافي والاجتماعي، فهناك من يراه جميلا منطلقا في رؤيته من الرفاهية التي عاشها والبعض الأخر يجده سيئا بسبب ما عاناه خلال فترة طفولته وصباه من ظروف معيشية وسياسية صعبتين، ومثلما هو الماضي مختلف في ايقاعه وهيمنته كذلك هو الحاضر قد لا تجري سفنه بما تشتهي النفس لكنه في نظر البعض افضل من المستقبل الذي قد يخبيء لك ما لا تتمناه على حد وصف الشاعر الهادي آدم (قد يكون الغيب حلوا، إنما الحاضر أحلى).
مؤخرا صار البعض ينزعج عندما يسمع من أحدهم وصف الماضي بـ " الزمن الجميل " اذ ان هذا البعض يختزل الماضي بعهد الدكتاتورية التي وان كانت حقبة مظلمة ذقنا مرارتها واكتوينا بجمر سياستها لكنها لا تمثل كل ماضينا ذلك ان ماضينا قد سبق عهد الدكتاتورية بكثير واقصد به الزمن الذي ساد في الوئام والاستقرار بين مكونات المجتمع العراقي، فعلى الصعيد الشخصي ينتابني حنين جارف الى الماضي وذكرياته الطيبة حيث بساطة الحياة والعيش واصدقاء الطفولة وأزقة المحلة التي ترعرعتُ فيها وشهدت مشاكساتنا البريئة والعابنا الشعبية الممتعة، وقد يشاركني هذا الشعور جمهور واسع من العراقيين، فما زالت مشاهدة الافلام بالتقنيات الحديثة تأخذ بي الى دور السينما هذه النافذة الثقافية التي نهضت بوعينا وهذبّت ذائقتنا من خلال ما قدمته من روائع الأدب العالمي، في ماضينا حرصنا ان نعبد طريقنا بالجمال والمعرفة حيث تربت ذائقتنا على اغاني ام كلثوم وصقلت ثقافتنا الكتب وافلام السينما فما زال الاستماع الى اغاني ام كلثوم يمثل لي طقسا ممتعا يعيدني الى بساطة ذلك الماضي عندما كنا نسهر ونحن بعمر الزهور ونستمع من راديو العائلة ورديفه صندوق الشحن الى حفلاتها الشهرية، الماضي الجميل أخذ بي في مرحلة الشباب الى قراءة امهات الكتب العظيمة قرأت مسرح شكسبير وبرتولد بريخت وبيتر فايس وموليير وشعر السياب والمتنبي ومظفر النواب ونجيب محفوظ وفي الفكر ماركس وسارتر وجان جاك روسو وعبد الرحمن الكواكبي وفي علم الاجتماع علي الوردي وابن خلدون وغرامشي وغيرهم من اعلام الفكر والأدب، اشعرُ انني محظوظ عندما عشت وشهدت حلاوة ذلك الزمن، حيث الوئام المجتمعي في محلتي الشعبية (محلة الجديدة) ـ أعرق محلات مدينة الديوانية ـ التي جمعت وتعايشت فيها بحب ومودة اطياف الشعب العراقي من الصابئة واليهود والمسيحيون والأكراد، لم نعرف العنف ولا الحقد ولا امراض الطائفية، قلوبنا ظلت بيضاء لم تنشغل بالاختلافات القومية والمذهبية والطبقية، المدرسة كانت بيوتنا والمعلمون كانوا اشبه بآبائنا والمحلة بيتنا الكبير وهذا الحاضر بكل ما حمل لنا من تطور في التكنولوجيا ووسائل الرفاهية المتعددة قد لا يصل بنا الى تلك السعادة التي عشناها في ذلك الماضي الفقير.
***
ثامر الحاج امين