أقلام حرة
ناجي ظاهر: "اللغة العليا"

لا يختلف مثقفان عاقلان في أن اللغة منذ بُرئت ووُجدت انما هدفت لأن تكون وسيلة تواصل بين بني البشر، بالضبط مثل وُجدت أصوات الطيور، أقول هذا وأنا أفكر في أولئك الاخوة الكتّاب الذين يفتعلون الغموض وكأنما هو واحدة من ضرورات الكتابة والابداع، أولئك الاخوان الذين لا يميزون بين الغموض الساحر الشفاف والابهام الذي يستعصي على الافهام، ربما على افهام الجميع بمن فيهم مرسلوه أنفسهم.
أقول هذا وانا اعرف أن للغموض في العملية الإبداعية تحديدًا سحرها وشفافيتها المُستحبة، كما أقوله وانا أعرف ان كل جديد إنما يفرض نوعا ما من الغموض، من ناحية، ومن ناحية أخرى، ان الغموض في الادب الحديث عامّة، انما يأتي تحديًا للقارئ، كما يرى الناقد الفرنسي المعروف جيرار جنيت، صاحب جامع النص.
الى هذا أرى انه مِن الصحيح، ان الكتابة خاصة، والابداع الفني في مختلف ضروبه عامة، انما ينبثق عن رغبة داخلية عميقة في التعبير عن الذات أولًا وبعده في مخاطبة هذه الذات، بمعنى ان الكاتب والفنّان بشكل عام، إنما يرمي مما ينتجه ويُقدّمه لنا نحن القراء، اخوانه من بني البشر، للوصول الينا او لتوصيل ما خالجه من أفكار، احاسيس وأخيلة، بطريقته الخاصة التي تمتاز عن كلّ ما عداها من أساليب وطرائق، وذلك عبر مخاطبة الذات، بهدف الوصول إليها، والتماهي بالتالي مع مَن يُشابهها من ذوات، لا بُدّ من وجود رابط فيما بينها وبين تلك الذوات، وذلك توطيدًا لأحد أسس العملية الإبداعية ومراميها المُسدّدة والمُوجّهة، وهي اننا أبناء جنس واحد، وُجد من والدين اثنين، كما تقول الفطرة، وكما تشهد التطورات الملموسة والديانات أيضا... وعادة ما نلتقي في إحساس واحد وحيد وموحّد..
غير أن هذا كله يُفترض ان يجعلنا نتذكّر ندرك ولا ننسى عددًا من الأمور، منها أنه يوجد هناك فرق كبير بين الغموض والابهام، وأن العمل الإبداعي بصورة عامة يمجّ الافتعال والاصطناع، وأن الكثيرين قد أكدوا على أهمية ان يحرص العمل الإبداعي الجدير والحقيقي، على عدم قطع الصلة المطلوبة والمرغوب فيها فيما بين مُرسلٍ/ مُبدعٍ ومتلقٍ/ مستقبل.
فيما يلي أحاول التوسّع في توضيح هذه الأمور والنقاط، التي يحتاج اليها العمل الإبداعي كي يكون جديرًا بهذه الصفة.
* الغموض والابهام: لا ريب في أن الجميع ميّزوا ويميّزون كما تفعل اللغة أيضًا، بين هذين فهناك فرق كبير بينهما، وفي حين أن الغموض، كما سلف أيضا، قد يكون مطلبًا لا بُدّ منه لاكتمال العملية الإبداعية، لا سيما ذلك الغموض الشفاف، فإن الابهام والانغلاق الكلّي فيما يرسله المرسل ويتلقاه المُتلقي، إنما هو مرفوض وممجوج، فمن العبث أن يتحوّل العمل الإبداعي إلى معميّات وطلاسم (مع الاعتذار لصاحب الطلاسم_ الشفافة- إيليا ابي ماضي)، زِد على هذا أن العمل الإبداعي في حالته الأخيرة هذه، وايغاله في متاهات الابهام ينغلق على ذاته ويُفقدها بالتالي الهدف من وجودها وكينونتها.
* الافتعال والاصطناع: سبق لي ان كتبت في هذا السياق مقالة، وضعتُ لها عنوانًا دالًا هو : الغموض والوضوح"، وقد رأيت في تلك المقالة أن الغموض والوضوح ما هما الا وجهان لعُملة واحدة، وقد أكدت في تلك المقالة ان المشكلة، مشكلة التلقي، الاستقبال أو التوصيل، لا تكمن في الحقيقة في الغموض والوضوح، اللذين تفرضهما العملية الإبداعية الحقيقية، وإنما هي تكمن في الافتعال والاصطناع، وقد ابديت الكثير من التحفظ على الغموض المتقصّد والوضوح المتقصّد أيضًا، ورأيت ان المشكلة تكمن في الشفافية وربّما في وضوح الرؤية واختمارها، وقد استشهدت في تأكيد فكرتي هذه بالعشرات مِن الاعمال الإبداعية، لا سيما في مجال الشعر، التي حفلت بالغموض الشفّاف، وتمكنتْ في الوقت ذاته، من الوصول الى متلقيها بكلّ ما اتصفت به من عُمق وسحر.
* اكتمال عملية التوصيل والحرص عليها: أجمع الكثيرون من الباحثين، النقاد والادباء، على أن المبدع الحقيقي الجدير بهذه الصفة، يُفترض أن يُحافظ على علاقته المنشودة بمُستقبِل عمله، فلا يقطع هذه العلاقة، وإنما يحرص عليها حرصه على أفضل ما لديه وأجمله، وإلا لماذا يُنتج المبدع، ولمن يُوجّه هذا الإنتاج، وما هو هدفُه مما يُنتجه؟.. واذكر في هذا السياق بكثير من المحبة والحنين الى زمن الابداع الأصيل، ما أكّد عليه الناقد المرحوم غالي شكري في كتابه الفاتن" شعرنا الحديث.. إلى أين؟.. الذي قيل إنه تأثر في وضعه له بكتاب عن الشعر الإنجليزي للناقد فرانز روزنتال. شكري أكد في كتابه هذا ما مفاده، انه ينبغي على المبدع، لا سيما في مجال القول الشعري، ألا ينسى أنه إنما يكتب، وان هناك مَن يقرأ ما يقدمه وينتجه، وان يحرص/ المبدع بالتالي، على عدم قطع هذه العلاقة.
يؤكد كل ما سلف، ان الاعمال الأدبية و.. الدينية أيضًا، اتصفت طوال تاريخها القولي، بنوع ما من الغموض الساحر الشفّاف.. الصادق، غير المُفتعل، والبعيد، الموغل في البُعد.. في متاهاته القولية.. التي قد تقضي على كلّ جمال وابداع، وهذا ما اردنا التحذير منه في هذه المقالة القصير المُنبّهة والمُحذّرة.
***
ناجي ظاهر
...................
*عنوان كتاب للناقد الفرنسي المعروف عالميا جون كوهن. هل نحتاج في استعارتنا له الى اعتذار؟..