أقلام حرة

شوقي مسلماني: لونُ اللّونِ الأبيض

قالَ مبارَك بالقهقهة - وهي لسانُ القرد - إنّ النهيق منطِقُ الحمار، وإن المُطفأ لا يَعرِف أكثر ممّا عرفَ على أبويه اللّذين لم يعرفا أكثر ممّا عرفا على أبويهما، تسلسلاً حتى رأس ناحية البراري والإسطبلات وآذانِ ناطحاتِ السحاب. تعلّمْ يا مبروك أنّ لون اللّون الأبيض أحمر ياقوت"!. وشخرَ مبروك ونخر وسبَّ الشمسَ والقمر وقال: "لا يستقيم الظلُّ والعُودُ أعوج"، اللّون الأبيض لونه أخضر زمرّد وليس غير أخضر زمرّد"!. ونعقا على بعضيهما البعض أو نهقا أو زعقا. وسمعَ أخوهُما برَكة وركض نحوهما وضحك بعدما سمع ما قالاه حتى إنقلب على ظهرِه ضحكاً، ومثلما يُقال "ذهبَ الحمارُ يطلبُ قرنين عادَ مصلومَ الأذنين" قال وهو لا يزال على ما هو فيه: "لا يا مبارك ولا يا مبروك، لا أحمر ياقوت ولا أخضر زمرّد، هو أزرق فيروز ". غضب مبارَك ومبروك أن يكون أخوهما بَرَكة على هذا القدر من التيه، قالَ مبارَك لابطَاً بالطول والعرض: "على الباغي يا بركة تدور الدوائر، اللّون الأبيض لونه أحمر ياقوت"، وقالَ له مبروك وعيناه تكتظّان بالتحدّي فيما يوسّعهما: "لا يا برَكة، لا أحمر ياقوت ولا أزرق فيروز، بل هو أخضر زمرّد وليس غير أخضر زمرّد". واختلطَ الحابل بالنابل عواءً ونباحاً، وكان في الجوار ظربّان - دويّبة فوق جرو الكلب منتنُ الريح.

وفي اليوم التالي وهم عند أجران الماء قالَ مبارك كأنّما إعتذاراً عن حديثِ الأمس: إنّ "أعْقَل الناس أعذرُهم للناس"، وقالَ مبروك: إنّ "مَنْ طلبَ أخاً بلا عيب بقي بلا أخ"، وقالَ بركة: "شُخْبٌ في الإناء وشُخْبٌ في الأرض - مثلٌ يُضرَب للرجل حين يصيب في فعلِه أو منطقِه مرّة ويُخطئ مرّة، وأصل المثل في الحالِب الذي تارةً يُخطئ فيحلب في الأرض وتارةً يصيب فيحلب في الإناء، والشُخْبُ هو الحليب يخرج مِنَ الضرع - وقيل: "بكلّ وادٍ أثرٌ مِنْ ثعلبة - مثَلٌ قالَه رجل مِنْ بني ثعلبة رأى في قومِه ما يسوؤه، فإنتقل إلى غيرهم، فرأى منهم مثل ذلك - وحثَّ شقيقيه مبارك ومبروك أن يكون لهم معاً كلام واحد في لون اللّون الأبيض. قالَ مبارَك لذاته: "تلبَّدي تَصِيدي - والتلبّد هو اللّصوق بالأرض لختْلِ الصيد - وقال لأخويه: "كلامنا الموحّد هو أنّ لون اللون الأبيض أسود بلون الماس الأسود". ارتعدتْ مفاصلُ مبروك وقالَ: "موقفُنا هو إنّ لون اللون الأبيض أصفر بلونِ زهرِ الصبّار الأصفر وكلُّ كلام آخَر لا إعتبار له حتى يشيب الغراب"، ونظرَ إلى برَكة وقال له: "ويلك يا أزرق العين" - ويُقال: يا أزرق العين للعدوّ، ويقولون في معناه: هو أسود الكبد - وضربَ الأرضَ بقدمِه، وتقدّم وتأخّر، والتفتَ إلى مبارَك وقال: "لون اللون الأبيض أصفر بلونِ زهرِ الصبّار الأصفر وهذا آخر كلام عندي". وقالَ برَكة: "خذوا لبيطاً إذا شبع اللئيم، وإذا هو من مدينة عبقر قولوا هو حمار إبن حمار أو حمار الحمير لا يكفّ عن التخاطب مع غيرِه باللغة التي لا يفقهها أحد غيره، لون اللون الأبيض بلون الياقوت الكشميريّ الأزرق السماويّ وليس بغير الياقوت الكشميريّ الأزرق السماويّ". قاطعاه، مبارك ومبروك، باللّطم، وحثّاه على الإهتداء. ومَنْ كان نعجة أكلَه الذئبُ، ونهشتِ الحيّةُ ولدغتِ العقرب، ومبارك ينعق نعوقَ الغراب ومبروك يهدر هديرَ الجَمَل وبرَكة يعزف عزيفَ الجنّ حتى رأوا أسداً مقبلاً على صهوة الريح. فرّوا لا يلوون على شيء خوفاً من الموت المحتّم.

وفي اليوم الثالث كانوا إلى مأدبة، قالَ مبارك: "لكلِّ صارمٍ نبوة" - ونبا السيفُ: تجافى عن الضربة - و"لكلّ جوادٍ كبوة" - وكبا الحصانُ: عثر - و"لكلّ عالِمٍ هفوة" - وهفوةُ العالِم: زلّتُه - والتقاه مبروك وقال: "النهيق مُنتَج طبيعيّ وطبعه المرح فيما الزعيق مُنتَج صناعيّ مثل أزيز الرصاص وجعير الصواريخ وغيرهما مِنْ لغاتِ اللّصوصيّةِ والكراهيّة". وافق بركة وقال: "إذا تكاثرتِ الحوافرُ تكاثرت المشاجرات وحوادثُ المرور". وإتّفقوا أنَّ الكلب الحيّ خير مِنَ الأسد الميْت وأنّ المهراجا أو الخواجا أو الكونت أو الباشا أو اللّورد نار على عَلَم - والعَلَم هو الجبل المرتفع - وأنَّ صاحبَ الحاجة أعمى، وأنّ العبدَ مطيّة الإقطاعيّ، وأنَّ الكومبرادور ذيل البرجوازي أو الرأسماليّ أو الإمبريالي.

وطاروا إلى كبيرِهم، ودخلوا عليه وحدّثوه فيما اختلفوا فيه وهم جاهزون لسماع ما سيقول فقال: يُقال "أعقلْ لسانَكَ إلاّ في أربعة: حقّ توضحه وباطل تدحضه ونعمة تشكرها وحكمة تظهرها"، والرجالُ أربعة: "رجلٌ يدري ويدري أنّه يدري فذلك عالِمٌ فاتبعوه، ورجلٌ يدري ولا يدري أنّه يدري فذلك نائمٌ فأيقظوه، ورجلٌ لا يدري ويدري أنّه لا يدري فذلك مسترشدٌ فعلّموه، ورجلٌ لا يدري ولا يدري أنّه لا يدري فذلك جاهلٌ فارفضوه". ضقتُ بكم ذرعاً، ألسنا على العهد إذا أُشكِل علينا أو غُرِّر بنا نحتكم من فورنا إلى ميدان الطعان والمنتصِر يكون قد نطق بأصدق المقال والمهزوم يكون قد نطق بالباطل أو المحال"؟.

وقال الراوي يا سادة يا كرام، ولا يطيب الكلام إلاّ بحضرة ذوي الأفهام، إنّ أبي العيناء سأل رجلاً عن دربِ الحمير؟، قال الرجل: "أدخلْ أيّ دربٍ شئت". يكذب مَنْ يقول إنّ الحضارة هي مُنتَجُ العنف، ولو ذلك صحيح لرأيتم الحمران، وأيديهم حوافر، قد سبقوا إلى القمر، وربّما هم يغتذون على الضوء ملتهمينه لا لا بالملعقة أو المغرفة بل بالشوكة والسكّين".

وخرج الأخوة الأعداء إلى ميدان الطعان، وتقاتلوا بالسيوف الحدب والرماح المكعّبة، وكان مبارَك أخْيَر بمواقع الطعن وأرشق، وأتتْ طعنةٌ منه في صدرِ أخيه مبروك، ثمّ فرغ لأخيه برَكة، وصارَ بينهما طعنٌ يقصف الأعمار، وشخصتْ لهما الأبصار، وتعاكستْ بينهما ضربتان وإذْ كلٌّ منهما يبري رقبةَ الآخر كما يبري الكاتبُ القلم.

ورأى الكبيرُ وسمع، وزفرَ وشهق، وقالَ كأنّه في تياترو: "دواءُ الدهر الصبرُ عليه، ماذا عندي في هذه الفانية؟، ما لي ثاغية ولا راغية" - والثاغية هي النعجة والراغية هي الناقة - ولو اتّجرتُ بالأكفان ما ماتَ أحد". وقبل إسدال الستارة إنهارَ على الأرض، ورفع يداً والدمع لا يكفّ عن خدّيه وقال: "ماتوا جميعاً، ليتَ واحداً منهم نجا لأعلم به ما ربّ لون اللّون الأبيض"؟!.

***

شوقي مسلماني

 

في المثقف اليوم