أقلام حرة
حيدر كريم: الانفصال والاغتراب.. تأثير الرأسمالية على الانسان
وجهت الرأسمالية ضربة موجعة للإنسانية بتهميش القيم المعنوية التي تشكل جوهر وجود الإنسان، مثل الحب والوفاء والصدق والإخلاص. فأصبحت هذه القيم لا تملك قيمة او اهمية إلا عندما تقترن بالأمور المادية (البراغماتية). فتحوّلت إلى سلع، وإلى وسيلة لا لغاية حسنة، بل لتحويل الإنسان نفسه إلى سلعة، وتجريده من قيمته المعنوية، ودفعه للتفكير فقط بما هو مادي. وهكذا أصبح الإنسان، كما عبّر عنه إريك فروم، ترس في آلة الإنتاج يدور معها ولا يشعر بشيء، يكون خاوي، ضجِر، مغترب.
يرى فروم أن الإنسان في كل العصور يواجه مشكلة قهر الانفصال1. والانفصال هو شعور بالوحدة وفقدان المعنى والعجز عن التواصل الحقيقي مع الآخرين—وأن عليه أن يفهم كيف يتجاوز انفصاليته.
في العصور القديمة، كان الإنسان البدائي الذي يحيا في الكهوف، أو الهائم الذي يرعى القطعان، أو الفلاح، أكثر عرضة لهذا الشعور. وعلى الرغم من ذلك، كانوا يلجأون إلى حلول لقهر انفصالهم مثل عبادة الحيوان، والانغماس في الترف، أو حتى التضحية الإنسانية2. أما الإنسان الحديث، في عصر الرأسمالية، يعيش انفصاله بشكل مختلف؛ فهو محاط بالناس، لكنه يشعر بأنه منفصل عنهم. ويلجأ بدوره إلى حلول جديدة، مثل الامتثال، أو الهروب عبر السكر والعربدة، أو الممارسات الجنسية العابرة. لكنها حلول مؤقتة؛ فعندما ينتهي مفعول الخمر، أو تنتهي هزة الجماع الجنسي، ويعود الإنسان إلى وضعه الطبيعي، يكتشف أنه لم يحرز أي تقدما، بل ازداد احباطا وتعاسة3.
وبينما قللت الرأسمالية من قيمة الإنسان وجعلت من قيمه المعنوية أدوات للمنفعة، يبقى الحب الوسيلة التي تعيد للإنسان جوهره. فالحب، بارتباطه بالقيم المعنوية، يجعل الإنسان يختبر الوفاء والصدق والإخلاص، ويكتشف أن وجوده ليس مجرد كونِه جزءاً من آلة إنتاج، بل كائناً قادراً على الإحساس و الشعور بالمعنى. الحب ليس شعوراً عابراً، بل حركة واعية تتطلب مسؤولية ووعياً تجاه الذات والآخر. ومن خلال هذا الوعي، يعيد الإنسان اكتشاف معنى وجوده بعيداً عن المصلحة المادية والتبادل النفعي. في الحب، يجد ذاته متصلة بالآخرين وبقيمه الأساسية، ويصبح فاعلاً في حياته، لا مجرد ترس يدور بلا إحساس في ماكينة الرأسمالية.
ويؤكد إريك فروم في كتابه فنّ الحب أن أساس المشكلة ليس في الحب نفسه، بل في الطريقة التي يتعامل بها الإنسان الحديث معه. فالمجتمع الرأسمالي يقدّم الحب كحالة شعورية مؤقتة4، ولحظة انجذاب سريعة، أشبه بلذة سريعة؛ بينما يرى فروم أن الحب مهارة، وفنّ يحتاج ممارسة وانضباطاً ووعياً5. الإنسان لا يقع في الحب بقدر ما يتعلم كيف يحب. ولهذا يميّز فروم بين الحب الذي تروّج له ثقافة الرأسمالية —حب قائم على المنفعة والامتلاك—وبين الحب الناضج الذي يُبنى على عدة أمور أساسية مثل الحرص، المسؤولية، الاحترام، والمعرفة. فمن يحب بحق يعتني بالآخر، ويتحمّل مسؤوليته بوعي لا بسيطرة، ويحترم فرديته واختلافه، ويسعى لمعرفة حقيقته لا الاكتفاء بصورة سطحية عنه. في هذه الأمور يصبح الحب الناضج الأنموذج الوحيد القادر على مواجهة اغتراب الإنسان المعاصر. لأنه يحرّر العلاقة من الحسابات والأمور المادية ويعيدها إلى جوهرها الإنساني؛ يجعل الإنسان يرى الآخر كأنسان، لا كسلعة.
وفي عالم حوّل المشاعر إلى سلع، يكون هذا النوع من الحب فعل خارج عن المألوف؛ تمرد واعٍ يعيد للإنسان ذاته، ويمنحه معنى لا يمكن شراؤه أو استبداله. وفي النهاية، يبقى الحب القوة الوحيدة القادرة على إعادة الإنسان إلى جوهره وسط عالم تصنعه الرأسمالية وتعمّقه الانفصالية. ومن خلاله يختبر الإنسان الوفاء والصدق والإخلاص، ويدرك أن وجوده لا يُختزل في كونه ترساً داخل ماكينة الإنتاج، بل كائناً يملك القدرة على الإحساس والمعنى والتواصل الحقيقي. الحب يمنح الإنسان قوة لمواجهة العزلة والاغتراب، ويعيد ربطه بما هو أعمق من المادة، وبالقيم التي تشكّل أساس كيانه. إنه يحوّل التجربة الإنسانية من دورة استهلاك وإنتاج إلى حياة لها روح ومعنى. وفي عالم يختزل البشر إلى أرقام وقيم سوقية، يبرز الحب كمساحة حرة لاستعادة الذات وإثبات إنسانيتها.
***
حيدر كريم
...................
الهوامش
1- انظر في كتاب أريك فروم ص20 وما بعدها (الحب جواب على مشكلة الوجود الإنساني)
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق
4- انظر ص 75 (وما بعدها) الحب و تفككه في المجتمع الغربي
5- انظر ص 95 (وما بعدها) ممارسة الحب







