أقلام حرة
علي الطائي: الهويَّةُ الدينيَّةُ والهويَّةُ الإنسانيَّةُ.. هل يبتلعُ المقدَّسُ المُشتركَ البشريَّ؟
منذُ أنْ عرفَ الإنسانُ ذاتَهُ، حملَ في روحِهِ سؤالًا مزدوجًا: مَن أنا؟ ولِمَن أنتمي؟ وبين هذين السؤالين تتأرجحُ الهويّاتُ، حتى ليبدو أنَّ الهويَّةَ الدينيَّةَ — بما تملِكُهُ من قداسَةٍ ورموزٍ وطقوسٍ وانفعالاتٍ — هي الأكثرُ حضورًا وتأثيرًا في تشكيلِ الخرائطِ النفسيَّةِ والاجتماعيَّةِ للشعوبِ. لكنَّ السؤالَ الأخطرَ يبقى قائمًا:
هل أُريدَ للدِّينِ أن يكونَ هويَّةً تُقصِي؟ أم رسالةً تُقَرِّبُ وتجمعُ؟ وهل يمكنُ للهويَّةِ الدينيَّةِ أن تُلغِي الهويَّةَ الإنسانيَّةَ المُشتركةَ التي تشتركُ فيها كلُّ الأممِ والشعوبِ؟
الآيةُ التي سبقتِ التاريخَ وظلَّ التاريخُ يتخلَّفُ عنها والقاعدةُ الإنسانيَّةُ الكبرى والتي تسبقُ كلَّ خلافٍ، قدَّمها القرآنُ حين قالَ:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
لم تُحدِّدِ الآيةُ لونًا، ولا دينًا، ولا مذهبًا، ولا قوميَّةً، بل وضعتِ الهويَّةَ الإنسانيَّةَ أساسًا لا يتغيَّرُ، وجعلتِ التنوُّعَ مقصودًا: "لِتَعارَفوا"، لا "لِتَتحاربوا".
إنَّها آيةٌ لا تنتمي فقط إلى الدِّينِ، بل تنتمي إلى الفطرةِ الأولى التي ينطلقُ منها كلُّ البشرِ. لكنَّ التاريخَ — كما جرتْ عادتُهُ — مشى في طريقٍ، وبقيتِ النصوصُ في طريقٍ آخرَ.
سؤالٌ مشروعٌ وصادمٌ: هل احترمَ المسلمونَ هذه الآيةَ عبرَ تاريخِهِم؟
الغالبُ وحسبَ التاريخِ الذي كتبوهُ بأيديهم، لم أجد (إلا ما ندرَ) غيرَ اللحظاتِ الحالكةِ التي امتلأتْ بالتعصُّبِ، وإقصاءِ المذاهبِ، وصراعاتٍ على السلطةِ تُرفعُ فيها رايةُ الدِّينِ لتبريرِ العنفِ. وهذا ما ينطبق على الأديانِ الأخرى بالطبع. المشكلةُ ليستْ في النصِّ، بل في التأويلِ التاريخيِّ، والإنسانُ حين يَتعطَّشُ للسلطةِ، يلبسُ رداءَ القداسةِ ليُخفي شهوةَ الغَلَبةِ.
هل ثقافةُ الإلغاءِ من صميمِ الدِّينِ؟
ثقافةُ الإلغاءِ لم تولَدْ من الدِّينِ، بل وُلِدَتْ من الإنسانِ نفسِهِ حين يُحوِّلُ العقيدةَ إلى مُمتلكٍ شخصيٍّ لا إلى رسالة. فليس في أيِّ دِينٍ سماويٍّ ما يدعو إلى إلغاءِ إنسانٍ آخرَ لمجرَّدِ اختلافِهِ في معتقدٍ أو قوميَّةٍ أو طائفة. الدِّينُ — في جوهرِهِ — محاولةٌ للفهمِ، لا وسيلةٌ للهيمنةِ. لكن الشعوبَ حين تخافُ، تتمسَّكُ بحدودِها، وتحوِّلُ الهويَّةَ الدينيَّةَ إلى أسوارٍ بدلَ أن تكونَ جُسورًا، وتتحوَّلُ الطوائفُ إلى مخازنَ للخوفِ المتبادلِ، فيغيبُ التَّعارفُ الذي هو أصلُ الوجودِ الإنسانيِّ.
هل دعا اللهُ إلى التباغضِ؟
كيف يدعو اللهُ إلى التباغضِ وهو الذي بدأ الخلقَ من "ذَكَرٍ وأُنثى"، أي من وحدةِ الأصلِ؟
كيف يدعو إلى الحروبِ وهو الذي جعل معيارَ الكرامةِ التقوى، لا العددَ ولا القوَّةَ ولا الهويَّةَ؟
إنَّ الدِّينَ — أيَّ دينٍ — يحملُ رسالةً أخلاقيَّةً تقومُ على: الرحمةِ، العدلِ، احترامِ الإنسانِ، وإعلاءِ قيمةِ السلامِ. وكلُّ دعوةٍ للحربِ ليستْ من اللهِ، بل من الإنسانِ حين يُلبسُ شهوتَهُ لِباسَ الدِّينِ.
هل اللِّباسُ علامةٌ يجبُ أن تُفرَضَ؟
اللباسُ جزءٌ من الثقافةِ لا من العقيدةِ. وقد تعدَّدتْ أزياءُ المسلمينَ الأوائلِ، من اليمنِ إلى الحجازِ إلى الشامِ والعراقِ ومصرَ وتونسَ والأندلسِ والهندِ وآسيا الوسطى، ولم ينزلْ نصٌّ يفرِضُ لونًا ولا شكلًا محدَّدًا. لكن صارتْ بعضُ الأزياءِ اليومَ أشبهَ براياتٍ طائفيَّةٍ؛ فبدلَ أن يكونَ اللباسُ وسيلةَ تعبيرٍ ثقافيٍّ، أصبحَ في بعضِ المجتمعاتِ أداةَ تصنيفٍ تُفرَضُ بالقوَّةِ أو تُستنكرُ في الآخرينِ، وكأنَّ اللهَ ينظرُ إلى الثيابِ قبلَ القلوبِ.
هل الإسلامُ يُلغِي الأديانَ الأخرى؟
الإسلامُ — في نصوصِهِ الجوهريةِ — لا يقدِّمُ نفسَهُ كممحاةٍ للدياناتِ، بل كامتدادٍ لها: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ﴾، والإسلامُ هنا ليس اسمًا لطائفةٍ محدَّدةٍ، بل حقيقةَ السلامِ والخضوعِ للهِ التي جاءتْ بها كلُّ الرسالاتِ، منذ نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى.
إنَّهُ — بحسب النصِّ القرآنيِّ — جوهرٌ مُشتركٌ لا احتكارَ فيه. ولذلك قالَ: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾، وهي آيةٌ تنسفُ فكرةَ الإلغاءِ من جذورِها.
والمأساةُ: ماذا يحدثُ حين تُنسَى الهويَّةُ الإنسانيَّةُ؟ حين تُنسَى الهويَّةُ الإنسانيَّةُ، يحدثُ ما عرفَهُ العالمُ عبرَ القرونِ: حروبٌ بسببِ المذاهبِ، مذابحُ بسببِ الدِّينِ، عنصريَّةٌ بسببِ الطائفةِ، تقسيمُ البشرِ إلى "نحن" و"هم".
لقد دفعَ البشرُ — ولا يزالونَ — أثمانًا باهظةً لأنَّهم نسُوا الأصلَ: أنَّنا مِن ذَكَرٍ وأُنثى، وأنَّ اختلافَنا لِنتعارفَ لا لِنتقاتلَ.
إنَّ الهويَّةَ الدينيَّةَ حين تُفهَمُ كما أرادَ اللهُ، تصبحُ جسرًا يعبُرُ عليه الإنسانُ إلى أخيهِ الإنسانِ، لا جدارًا يعزِلُهُ عنه. وحين تعودُ الأديانُ إلى رسالتِها الأولى — رسالةِ تحريرِ القلبِ من الكراهيةِ — سيكتشفُ البشرُ أنَّ ما يجمعُهم أكبرُ بكثيرٍ ممّا يفرِّقُهم. فالإنسانُ قبلَ المسلمِ، وقبلَ المسيحيِّ، وقبلَ اليهوديِّ، وقبلَ أيِّ طائفةٍ أو مذهبٍ…
وإن ضاعتِ الهويَّةُ الإنسانيَّةُ، ضاعتْ معها كلُّ الهويّاتِ.
***
بقلم د. علي الطائي







