أقلام حرة

ليث العتابي: ثلاثية: النظام، المعرفة، الأخلاق

لم يعد التعليم في هذا العصر رحلةً متكاملة نحو بناء الإنسان، بل صار مفترق طرقٍ حادّاً، لا يسمح إلا بخيارين متنافرين في الظاهر:

إمّا النظام، وإمّا المعرفة، وكأنّ الأخلاق أُخرجت من المعادلة، أو أُجّلت إلى الهامش، مع أنها الميزان الذي يمنح كليهما معناهما.

فالنظام، كما يُمارَس اليوم، لم يعد انضباطاً واعياً يخدم الإنسان ويهذّبه، بل تحوّل في كثير من الأحيان إلى طقوسٍ جامدة، وأختامٍ تُضرَب، وحضورٍ بلا روح، وغيابٍ عن الجوهر.

نظامٌ بلا أخلاق، لا يربّي، بل يُروّض؛ لا يبني، بل يُخضع.

أمّا المعرفة، فقد أُرهِقت حتى كادت تُختَزل في ملخّصٍ عابر، أو شهادةٍ تُعلّق على الجدار، لا في عقلٍ يُنتج، ولا في وجدانٍ يُضيء.

ومعرفةٌ بلا أخلاق، قد تتحوّل إلى أداة تبرير، أو وسيلة استعلاء، أو رأس مالٍ بلا ضمير.

والجمع بين النظام والمعرفة؟

هو أمرٌ ممكن… لكنه نادر، ندرة الصادقين في زمن الضجيج، وقلّة المجاهدين في زمن الراحة.

أمّا الجمع بين النظام والمعرفة والأخلاق، فهو التحدّي الحقيقي، لأن الأخلاق هي التي تضبط النظام، وتوجّه المعرفة، وتمنع انحرافهما معاً.

الطالب اليوم محاصر:

تحاصره الشاشات، وتشتته التفاهة، ويخذله البيت ـ لا نعمم ـ الذي كان يفترض أن يكون السند، فإذا به في أحسن الأحوال متفرّج، وفي أسوئها شريك في الخراب.

بيتٌ لا يزرع قيمة، ولا يحرس وقتاً، ولا يوقظ همّة، ثم يتساءل بدهشة: لماذا فشل الأبناء؟

وكأن الفشل وُلد فجأة، لا نتيجة فراغٍ أخلاقي سابق.

وفي الضفة الأخرى، يقف بعض الأساتذة ـ لا نعمم ـ وقد أُنهكت رسالتهم، فصار همّهم نهاية الشهر لا بداية العقل، والراتب لا الرسالة، والنجاة الفردية لا البناء الجمعي.

وحين تُنزَع الأخلاق من التعليم، يصبح الأستاذ موظفاً، والصف عبئاً، والطالب رقماً.

كما يقف بعض المسؤولين، مشدودين إلى كراسي القيادة، يعدّون التعليم ملفاً إدارياً لا مشروعاً حضارياً، ويقيسون النجاح بعدد التقارير لا بعدد العقول المستنيرة، وبكثرة الصور لا بتقليل البيروقراطية القاتلة.

إدارة بلا أخلاق، مهما كانت منظّمة، لا تُنتج إنساناً، بل تُنتج وهماً منظّماً.

وفي هذا المشهد المزدحم بالخذلان، تقع الضحية الأولى:

الطالب… الذي لم يُعلَّم كيف يكون إنساناً قبل أن يكون ناجحاً، ولم يُدرَّب على تحمّل المسؤولية قبل المطالبة بالحقوق.

ثم تأتي الضحية الثانية:

الأستاذ الحريص، المجد، الذي يقاوم التيار وحده، ويدفع ثمن إخلاصه تهميشاً أو إرهاقاً أو اتهاماً، لأنه لم يساوم على أخلاقه.

أيها الطالب، اعلم أن النظام بلا معرفة قيد، والمعرفة بلا نظام فوضى، وكلاهما بلا أخلاق خطر.

وأنك إن ضيّعت العلم اليوم، فلن يعوّضك الزمن غداً، فلا تجعل أعذار الآخرين شماعة لكسلك، فالمستقبل لا يرحم من فرّط في نفسه.

وأيها الأستاذ، تذكّر أنك حين تدخل الصف، تدخل محراباً، وأن كلمة صادقة قد تغيّر مصيراً، وأن تقاعسك ـ وإن بدا صغيراً ـ قد يورث أجيالاً من الخواء.

فالتعليم موقفٌ أخلاقي قبل أن يكون مهنة.

وأيها الأب والأم، بيوتكم ليست فنادق نوم، بل مصانع قيم، فإمّا أن تزرعوا فيها معنى العلم والانضباط والمسؤولية، أو تحصدوا فراغاً لا يشبهكم.

وأيها المسؤول، اعلم أن الكرسي زائل، وأن ما يبقى هو أثرك في عقول الناس، فإمّا أن تُذكر ببناء الإنسان، أو تُنسى مع أول تغيير.

إن التعليم ليس نظاماً يُفرض، ولا معرفةً تُكدَّس، ولا شهادةً تُمنح، بل أخلاق تُغرس، وعقل يُدرَّب، وضمير يُبنى.

فإن لم نُحسن الجمع بين النظام والمعرفة والأخلاق، فلا أقلّ من ألا نقتل المعرفة باسم النظام، ولا نبرّر الفوضى باسم الحرية، ولا نُفرغ التعليم من إنسانيته باسم الواقعية.

ففي نهاية المطاف… الأمم لا تنهض بكثرة المباني، بل بصفاء العقول، ولا تُقاس بقوانينها المكتوبة، بل بأخلاق معلّميها، ولا تُحفظ إلا بعلمٍ منضبط، ونظامٍ أخلاقي يخدم المعرفة… لا يدفنها.

***

الشيخ الدكتور ليث عبد الحسين العتابي

في المثقف اليوم