اخترنا لكم

ابتهال عبد الوهاب: تديين المجال العام طريقا الي الهاوية

ليست الكارثة في أن يكون الإنسان مؤمنا، بل في أن يتحول الإيمان إلى أداة للهيمنة على العقول، ومقصلة معلقة فوق كل فكر حر. إن تديين المجال العام في مجتمعاتنا لم يكن يوما مدخلا إلى الخلاص، بل أصبح عائقا أمام نمو العقل وتمدده في آفاق البحث والمعرفة. فالعقل العربي المنهك أصلا بتراثه المثقل وجد نفسه مسجونا بين أسوار وصاية رجال الدين، لا يكاد يتنفس خارجها إلا ويتهم بالزندقة أو الخيانة

إنّ أخطر ما تواجهه مجتمعاتنا اليوم ليس الفقر ولا الاستبداد وحدهما بل ذلك التحالف الخفي بين الدين والسياسة الذي يجعل من المجال العام ساحة لتصفية الحسابات باسم السماء. تديين الدولة ليس مجرد خطأ سياسي، بل كارثة حضارية متكاملة، لأنه يحول النصوص المقدسة إلى شعارات حزبية، ويستبدل سلطة العقل بسلطة الفتوى، ويقيد حركة المجتمع بحدود التأويل الضيق

لقد صارت السياسة في بلادنا منابر وعظ، وصارت الكوارث الطبيعية تفسر وكأنها رسائل غيبية، وصارت الأمراض تربط بالذنوب، والعلم يحاكم بمقاييس الفقه، حتى تحول العقل الجمعي إلى عقل قاصر، عاجز عن التفكير خارج الوصاية المقدسة. إن هذه الوصاية أفرزت وعيا مشوها، يخلط بين الخرافة والحقيقة، بين الطقس الديني والمعادلة العلمية، بين المجال الشخصي والفضاء العام

وحين يُحشر الدين في تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية، يتوقف العقل عن التفكير الحر، ويتحول المواطن إلى تابع يبحث عن رأي الشيخ لا عن “قرار الدولة”. وحين تتحول الكوارث الطبيعية إلى عقوبات إلهية، والأمراض إلى ابتلاءات أخلاقية، والسياسة إلى خطب وعظية، عندها ينهار معنى الدولة الحديثة، ويختزل الوطن إلى طائفة أو جماعة تتحدث باسم الله

اعتقد ان الفكر الذي يتصادم مع العلم، أيا كانت مرجعيته، لا يمكن أن يقود سوى إلى الخراب ذلك أن العلم ـ وهو ثمرة العقل الإنساني الحر لا ينهض إلا إذا أزيحت عن طريقه الأثقال التي تجره إلى الخلف. والتاريخ خير شاهد: فالأمم التي نزعت القداسة عن السياسة، وأبقت الدين في مجاله الروحي والأخلاقي، استطاعت أن تفتح أبواب النهضة وتشيد حضارات تحترم فيها إنسانية الإنسان.

إن فصل الدين عن الدولة ليس حربا على الإيمان، بل هو إنقاذ للإيمان من التوظيف القمعي. فالدولة التي تحكمها المرجعية الدينية المطلقة تلغِي التعدد، وتحول المختلف إلى عدو، وتجعل الحقيقة رهينة نص واحد أو تأويل واحد. أما الدولة المدنية، فهي التي تمنح الدين مكانته كقيمة روحية وأخلاقية، وتحمي في الوقت ذاته حق الفرد في أن يختلف، في أن يفكر، في أن يبتكر، وفي أن يعيش دون خوف من محاكم التفتيش الحديثة.

الفصل إذن ليس خصومة، بل توازن: توازن بين إيمان يخص القلب والضمير، وبين عقلٍ يعنى بتنظيم شؤون الدولة والحياة. بهذا وحده نستطيع أن نحرر العقل من عجزه المزمن، وننقذ السياسة من سطوة الخرافة، ونمنح الإنسان فرصة لأن يستعيد دوره كفاعل في التاريخ، لا كتابع لفتاوى تصادر مستقبله قبل أن يولد.

التجارب العالمية تؤكد أن الدول التي نجحت في التحرر من وصاية رجال الدين، لم تفقد إيمانها ولا هويتها، بل استردت عقلها الجمعي وقدرتها على الإبداع. أوروبا لم تنهض إلا بعد أن جردت الكنيسة من سلطة التحكم في العلم والسياسة. أما نحن، فما زلنا ندور في حلقة مفرغة: كل إصلاح سياسي يفرغ من مضمونه لأن الفتوى أقوى من الدستور، وكل مشروع علمي يقمع لأن العقل الفقهي أقوى من العقل التجريبي

فالدولة التي تحكمها مرجعية دينية مطلقة لا يمكن أن تعرف التعدد ولا أن تقبل المعارضة، لأنها تعتبر أي اختلاف خيانة للعقيدة قبل أن يكون اختلافا في الرأي

وكلمه اخيره هي إن إبقاء الدين في مجاله الروحي والأخلاقي وحصر الدولة في إدارة الشأن العام بالعقل والقانون، هو السبيل الوحيد لصون المجتمع من الانقسام، ولإعادة الاعتبار إلى الإنسان كمواطن، لا كتابع لسلطة غيبية. فالدولة بلا عقل تتحول إلى ثكنة مغلقة، والدين بلا حرية يتحول إلى أداة قمع

إن الأمم لا تبنى بالوصاية على العقول، ولا بخلط الدين بكل أمور الحياة بل تبنى بالعقل الحر والقانون العادل. وما لم نفصل الدين عن الدولة، سنظل ندور في فلك مظلم إن الدولة المدنية ليست ترفا فكريا، بل هي صرخة إنقاذ: إنقاذ للوطن من التفكك، وللدين من الابتذال، وللإنسان من العبودية. فإما أن نختار عقلنا وننهض، أو نبقى أسرى خطاب يقدس العجز ويؤبد الانهيار..

***

ابتهال عبد الوهاب

عن موقع: منبر العراق الحر، يوم 19/8/2025

 

في المثقف اليوم