اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: تأملات في مفهوم الحيرة

ترجع كلمة الحيرة إلى «حار البصر» إذا لم يهتد إلى سبيله، وحار المرء وتحيّر فهو حيران، بمعنى متردد ومضطرب ومرتبك، لا يدري وجه الصواب. ولم يخل القرآن الكريم من الإشارة إلى مفهوم الحيرة، بهذا المعنى، كما نلفى في الآية الواحدة والسبعين من سورة الأنعام، دلالة على «التبلّد في الأمر والتردّد فيه» كما يقول الأصفهاني في مفرداته، لكن رغم ما يوحي به هذا المعنى من دلالات قد تظهر في بادئ الرأي أنّها قدْحية، فإن مفهوم الحيرة في الثّقافة الفلسفية والصّوفية يظهر من المفاهيم الإيجابية الدّالة على انفتاح باب الحقائق، كما نجد في قول القائل «من حار وصل»، فطريق الحقيقة يمر بسبيل الحيرة ليس غير.

اشتهر الصّوفية بمدح الحيرة، فالحيرةُ عند ابن عربي هي «عينُ العلم»، وذلك عند اجتماع الأضداد، فتصبح الحيرةُ عند أهل العرفان غاية ومقصداً من المعرفة النّقلية والعقلية على السّواء، ولعلّ هذا المذهب يرى ضرورة بقاء العقل مُنْدَهِشاً والقلبَ مشُوقاً، في نجْوة عن التّقليد المُحْبط، والعقلانية الصارمة، وفصل القول الشّرعي. فنحن أمام عقل مُنْفتح وقلْبٍ طُلَعة إلى آفاق معرفة لا تتّسع لها حدود، فللحيرة ها هنا حركة دائرية يترجمها دعاء شهير للصّوفية: «اللهم زدني فيك تحيراً»، إذ كلما زاد العلم زادت الحيرة وتضاعفت. ولا يقول المرء هذَراً إذا زعم أن لا محرك للمعرفة إلا هذا الدّافع القوي، فالحَيْرةُ المتجدّدة مِهْمازُ كلّ ممارسة علمية جادّة.

يتأكَّد هذا عند مطالعة الحيرة عند الفلاسفة، حيث نلفاها منهجاً قبلياً للمعرفة، ذلك ما يمكن أن نفهمه من مذهب سقراط وأفلاطون وأرسطو في الدّهشة، ومن مذهب الغَزالي في أنّ الشّكوك موصلة إلى اليقين، وأن الذي لا يبدأ رحلته العلمية بحيرة الشّك لا يستطيع أن يمارس التفكير ليبصر الحقيقة، وهو نفس الشّعار المنهجي الذي رفعه أبو الفلسفة الحديثة روني ديكارت عندما اعتبر التّحرر من الأفكار المسبقة الطّريق الملكي إلى الحقيقة العلمية، ولا حياة خلال هذه الفترة إلا حياة حيرة ينفتح فيها العقل على الاحتمالات المختلفة قبل أن يجد طريقه إلى نفي الحيرة باليقين، وقد نفاها ديكارت بأفكار فطرية أشرق بها الحَدْسُ في عقله، كما نفاها الغزالي من قبله بنور قويّ قذفه الله في فلبه.

لكن قبل ذلك كانت الحيرة مالكة بزمام الفيلسوفين، ضدّاً على من جعل الحيرة مذهباً فلسفياً مثل صنيع الفيلسوف الفرنسي «مونتين»، الذي جعل الشكَّ تلك الوسادة التي لا تنام عليها، بزعمه، إلاّ الرؤوس المنظّمة.

يعلمنا مفهوم الحيرة أن طريق الفلسفة هو طريق المفارقات، وأنه لا يمكن إدراك حقيقة المفاهيم إلا بالنّفاذ إلى عمقها وتلمس ما يكتنفها من أضداد، عندها فقط نستطيع الإمساك بالمفهوم وفهم أبعاده بعيداً عن الفهوم السّطحية التي تقف عند الوِشاح الظّاهري للمفهوم فيحول دونَهُ ومعرفة حقيقة المفهوم وذَوْق حقيقته.

فالحيرة مأزق، والحلول التي تأتي بعد الاستبصار في المأزق، وتقليب وجوه النظر فيه، لا يمكن إلا أن تكون حلولاً ناجعة في الحقّ والجدوى، ولنا في الحيرة التي أحدثتها أزمة الأعداد الصماء عند فيثاغورس، والتي كانت السبب الأول لظهور الفكر الفلسفي، والحيرة التي أحدثها السفسطائيون والتي كانت سبباً في ظهور سقراط، الفيلسوف الأول، أجلى مثال على خصب الحيرة وثراء نتائجها.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 18 سبتمبر 2025 23:45

 

في المثقف اليوم