شهادات ومذكرات
عبد الحسين شعبان: النجف بين المرئي واللّامرئي

كنت قد قلت أن النجف هي "خدّ العذراء" و"شقائق النعمان" و"الغري"، وهي موسوعة غنية ومتنوّعة تحكي الحضارة والثقافة والتاريخ والفلسفة والدين والأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، وفوق كلّ ذلك الجمال والحسن والخيلاء.
كلّ شيء في النجف مثل كتاب له تاريخ وله فلسفة وله أسلوب وله معنى. والنجف دائمًا ما تتكلّم، تنطق وتقول. رأيها مسموع حتى وإن كان مقموعًا، وحين تسكت وتضطرّ إلى كظم غيظها، فهي تتحدّث وتعاند، ليس بالمجاهرة فحسب، بل بالصمت أيضًا.
المدينة على الرغم من عروبتها الباهرة ولغتها العربية الفاتنة، هي في الآن ذاته ملتقى لغات وجنسيات وأعراق وأعراف وتقاليد وأزياء، اجتمعت لتشكّل هارموني يعزف سيمفونية الحياة المائزة الرائزة. إنها موزائيك ملوّن لفسيفساء اجتماعية بهندسة محبّبة أقرب إلى التجانس والائتلاف، بقدر ما تحمل من تعارضات وتناقضات.
والنجف مدينة حانية، ليس على أبنائها فحسب، حتى وإن عقّوا قليلًا، بل على سكانها وقاطنيها، فكثير من أعيانها ومرجعياتها الدينية، ومن أقاموا فيها، اعتبروا أنفسهم ينتمون إليها ولم يُعرفوا بغيرها. وهكذا كانت معهم متسامحة، إلّا على من أراد امتهان كرامتها، فسيكون غضبها كالإعصار، دون انتقام أو ثأر أو كيدية.
إنها مدينة جامعة يتجاور فيها الأضداد، القديم والجديد، الريف والمدينة، البادية والحضر، القدامة والحداثة، الأصالة والمعاصرة، وباستعارة من السيد مصطفى جمال الدين في كتابه "الديوان": إنها مدينة الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق. ولعلّ الجواهري الكبير كان قد شخّص هذه الحالة في قصيدته البائية التي يعتبر التناقض من طبيعة الأشياء وفيه تنبجس الحقيقة:
ولم أر في الضدائد من نقيضٍ / إلى ضدٍ نقيضٍ من ضريبِ
يا عودةً للدار ما أقساها
حاولت أن أفهم المدينة بعد عودتي من المنفى. هي كبرت واتّسعت وازدحمت وتنوّعت واختلفت، وأنا كبرت وتعبت وشغلتني الهموم وتبخّرت الكثير من أحلامي، بل وجدْت بعضها على قارعة الطريق يعبث فيها من لا يستحق.
توقّفت طويلًا عند جمال النجف الحزين، استعدت ذاكرتها وذاكرتي، تلك التي كانت تتشكّل مثل طبقات أركيولوجية لدرجة يمكنك لمسها وتحسّسها بقدر ما يمكنك تخيّلها وتصوّرها. خاطبت نفسي قائلًا: النجف هي كلّ ما ترَكتهُ روحك أو في روحك من ذاكرة وذكرى واستذكار، لذلك بقيت أردّد مع الشاعر أحمد الصافي النجفي:
يا عودةً للدار ما أقساها / أسمع بغداد ولا أراها
وهو ما كنت أفكّر فيه دائمًا، فما ينطبق على بغداد ينطبق بدرجة أكبر على النجف بالنسبة لي.
حسبتُ أن النجف واحدة موحدة بمحلاتها الأربعة: العمارة، الحويش، البراق والمشراق، كما اكتنزتها ذاكرتي، وإذا بها تصبح مدينة شاسعة مترامية الأطراف بعد أن كانت تضمّ ما داخل السور، فأصبحت تضمّ ما خارجه، ممتدّةً إلى الكوفة وما بعدها وإلى الحيرة وأبو صخير وما بعدهما، دون أن ننسى توسعها باتجاه الصحراء. هكذا شكّلت النجف مجتمعًا جاذبًا من داخل العراق ومن خارجه، وإن بقيت ثمة حدود بين الأصلاء والمقيمين وأهل المدينة والوافدين، لكن الجميع امتزجوا في بوتقة النجف.
السور العتيد
أتذكّر سور النجف الجميل، حيث كنتُ يوميًا وعلى مدار ست سنوات أمشي بجواره، ذهابًا وإيابًا إلى مدرستي السلام قادمًا من عگد السلام، وبعدها حين كنّا نمارس هواية لعبة كرة القدم خلف السور متجاوزين مقبرة الغري الشهيرة، بعد انتقالنا من الطارات قرب بحر النجف، وهي أكبر مقبرة في العالم، لينفتح عالمنا الخاص ليس رياضيًا فحسب، بل عالم الشعر والأدب، حيث اعتدنا على ممارسة هواية تقريظ الشعر أو المطاردات الشعرية.
ولسور النجف حكاية استذكرتها بعد مناقشة حامية مع ابنتي المحامية سوسن في مساء أحد الأيام، بعد وضع اليد على أموال المودعين في بنوك بيروت العام 2019، وقد جاءت عليها في مداخلتها عني عند تكريمي في الكويت / أربيل من جانب الشاعرة المبدعة سعاد الصباح (2024)، بقولها: فإذا بأبي يستيقظ صباحًا ليردّد وهو في مرح غامر ومزاج رائق ما كان يسمعه من أحد معارفه في السور العتيد "I am happy I am poor ...مفلس وقاعد بالسور..." هكذا قالت: أراد والدي أن نجد الفرح في كل المواقف مهما كانت غير سارة، بل وحزينة، وأن ننظر إلى الجانب المشرق من الأشياء.
وأستكمل حكايتي عن سور النجف، الذي كان درعًا لحماية المدينة من هجمات "الغزاة" و"الغرباء"، فقد ظلّت علاقتي به وطيدة كلّ فترة فتوّتي، وإن تهدّم أغلبه حينها، ففي الخمسينيات انخرطنا كأشبال، كما كان يُطلق علينا، في فريق الاتحاد "اليساري"، الذي ترأسه عبد الرضا فياض، قبل أن يُحكم عليه بالسجن لمدّة عام بتهمة الشيوعية، وقضى بعدها عامًا تحت المراقبة (1957)، والطريف أنه أصبح لاحقًا ممثلًا لتيار السيّد مقتدى الصدر في ديالى، وكان أصدقاء لنا من القوميين يمارسون ذات الهوايات في فريق فيصل، حيث نتبادل الأدوار أحيانًا وندخل في مسابقات كرة القدم، وهي أقرب إلى الجدالات الفكرية والسياسية، فإذا انتصر فريق الاتحاد ونحن أشباله اعتبرناه انتصارًا لليسار، وإذا انتصر فريق فيصل كان يعني انتصارًا للقوميين. كان ذلك قبل أن تفرّق ثورة 14 تموز / يوليو 1958 الناس وتقسّم المجتمع العراقي إلى معسكرات متناحرة، حيث أصبح العنف المقيّد، وفيما بعد العنف المبدّد، مهيمنًا عليه.
كان للجمال معنى ومبنى وهويّة، وهو ما كنت أراه في النجف القديمة، ويا حسرتاه، فقد خرّبها الجهل والأذواق البدائية والمصالح الأنانية، حيث جرى تهديم الكثير من المباني التراثية والتاريخية، وأقيم بدلًا عنها البنايات الإسمنتية الخالية من أية روح بحجة الحداثة والتقدّم، ولا علاقة لها بذلك، فالبساطة والدفء والمحبة كانت سمة المدينة وأسواقها وحاراتها وأزقتها ومدارسها، حيث يتوسّطها الصحن الشريف، رئة المدينة بأبوابه الأربعة، باب القبلة وباب العمارة وباب الطوسي وباب الساعة، ويقتسمها السوق الكبير ابتداءً من الميدان وحتى الصحن الشريف.
النجف لا تمنح الطمأنينة والصفاء الروحي لسكانها فحسب، بل تمنحه للقادمين والزائرين، كلّ ذلك دون منّة أو فضل، وإنما تفعل ذلك بكرم أخلاقي ومروءة إنسانية اعتزازًا بشموخها وكبريائها، مثلما هو علو منائرها وزهو قبتها الذهبية.
في النجف تحتشد عوالم وأزمنة متعدّدة ومتنوّعة، وثمة رمزية تروي سردية زمن مضى بحيوات أهله، لكنه ما يزال شاخصًا على الرغم من محاولات تجريفه وجعله لا مرئيًا، لكن الجدل ظلّ واحدًا من مكوّناتها الأساسية، ويشكّل مصدر حيويّتها بتناقضاته المتعارضة والمؤتلفة.
كل تلك النجف، التي احتفت بي واحتفيت بها، كانت حاضرة في المجلس الثقافي والاجتماعي لآل سميسم في يوم رمضاني روحاني ربيعي (5 آذار / مارس 2025) قُبيل عيد ميلادي الثمانين (21 آذار / مارس)، مثلما كان الحضور معطرًا وزاهرًا ومتنوعًا، شمل الحوزة العلمية والمراجع الدينية وشيوخ العشائر ووجهاء النجف ومثقفيها ونخبة لامعة من خيرة مثقفي العراق وأدبائه وصحفيّيه وأكاديمييه من العرب والكرد ومن داخل العراق وخارجه.
***
عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي