شهادات ومذكرات

جمال العتابي: خرائط البلدان.. لغة صامتة تبوح بالكثير

دهشة التعلم الأولى، دهشة اكتشاف عالم جديد من أنقى اللحظات الإنسانية، شعور بالخوف والفرح البريء مع إحساس خفي بأن الحياة ستبدأ من هنا، من لحظة تصفح الكتاب، حيث تبدأ الأسئلة عن الحروف والصور ورائحة الورق في صفحات كراسات الصفوف الأولى للدراسة الابتدائية،  من بينها مطبوع لا يشبه سواه: (الأطلس العراقي) بألوانه الزاهية وطباعته المحكمة الأنيقة، وإن أسعفتني الذاكرة، أنه مطبوع في أرقى المطابع الهولندية، عنوان الغلاف بخط الرقعة الجميل على شكل قوس، أشرف على إعداده  أساتذة متخصصون في الجغرافية، نجم الاطرقچي وأحمد المهنا. كان الأطلس بوابة إلى عوالم بعيدة.. إلى أسماء تشبه الطلاسم، أرددها كتعاويذ مقدّسة، كلما أتصفح أوراقه يخيل إليّ أني أطوف العالم وحدي، صرت أرى في الخرائط أرواحاً لا خطوطاً صماء، كل خريطة كانت تحمل وجهاً مستتراً، استدرجها إلى خيالي، كلغزٍ مرسوم على الورق. كانت نافذتي الاولى نحو المجهول، لا أعرف (كراچي) وعواصم الدنيا، لكنني أحدّق فيها كلما تصفحت الأطلس، لا أعرف ماذا وراء جبال زاگروس، فألمسها بطرف أصبعي، فأشعر أنها تعرفني. كبرتُ وكبرت معي دهشتي بالألوان، لازمني الشغف بالأمكنة، وتأمل الخرائط وأشكال التقسيمات الحدودية، فتحول، كلما تقدمت السنين إلى منهج وتوجّه ودراسة لعلم الجغرافية في المراحل الجامعية الأولى، كانت محصّلتها، كتابان عن الأمكنة: (داخل المكان.. المكان روح ومعنى) و(ضفاف المدن). يومها لم أقرأ قصة الحكّاء الأرجنتيني لويس بورخيس "امبراطورية الخرائط" بوصفها مفارقة ساخرة، وحكاية فلسفية تشير إلى عبثية المبالغة في التفاصيل.

أدركت لاحقاً أن خرائط الدول نتاج تاريخي وجغرافي وسياسي، تمنح الدول - أية دولة - حدودها وشكلها المختلف مع البلدان الأخرى، هذا الشكل يثير أسئلة عديدة، من بينها: هل توجد خرائط بلدان جميلة وأخرى مشوّهة؟ هل لها امتدادات غريبة أو نتوءات؟ بعض الأشكال تبدو أنيقة، متوازنة، متناغمة، في حين أن خرائط دول أخرى توصف بأنها مشوشة، غير متناسقة، أو مجزأة.

الحقيقة المؤكدة هي أن كل الحدود، لم ترسمها أيادي الشعوب، بل صنعتها إرادات استعمارية على وفق ما تشاء، على وفق مصالحها وقوة نفوذها، هي لا تعبّر على الأغلب عن الواقع الإثني أو الثقافي والاجتماعيّ بشكل دقيق، بل كانت سبباً وراء العديد من الصراعات والحروب الطويلة بين البلدان.  في ظل ظروف معقدة واتفاقات ومؤامرات دولية لم تأخذ بنظر الاعتبار مصالح الشعوب. بينما تحمل الخريطة أبعادًا جمالية وثقافية ومعرفية بعيداً عن وظيفتها السياسية، يجعلها أكثر من مجرد أداة ترسيم، أو وسيلة لتحديد الأماكن وتراتبيتها، بل هي طريقة لرؤية العالم، العلاقات بين الأشياء، المساحات، فضلاً عن جمالياتها الخطية والهندسية وإشاراتها الرمزية.

هذه العناصر مجتمعة تجعل منها عملاً بصرياً، هناك من ينظر إليها كوسيلة لتأمل فكرة المكان والانتماء، وتصبح رمزاً للوحدة، تعلّق في الساحات والمكاتب وجدران المدارس، ويلجأ المصممون بإفراط إلى توظيفها كعنصر أساس في تصميم (لوغوات)، الدوائر الرسمية والمنظمات والمؤسسات، ما يفقد قيمتها الجمالية والرمزية.

ثمة حوار نفسي وثقافي تخلقه الخريطة، وندوب تاريخية تعبّر عن تمزقات داخلية: إثنية، اجتماعية، ثقافية، سياسيّة، الخرائط ليست صامتة، كل خريطة تقول شيئاً: تلمّح، تهمس، تصرخ أحياناً، تبدو على الورق أكثر من خطوط مرسومة، هي أبعد من ذلك : مخلوقات، أجساد، هياكل، نرى وجوهاً من دون ملامح، وملامح بلا هوية. هذه التأويلات الرمزية لشكل الخرائط هي في جوهرها قراءة مجازية أكثر من ملاحظة جغرافية موضوعية. بعض الخرائط تشبه الطير، خريطة الصين تبدو كامرأة حبلى، وثالثة مثل سيف مكسور، أو دودة شريطية، أو كف ترتجف، خريطة العراق تثير شعوراً بالاتزان، جسد متناسق يخترقه نهران يتحدثان عن تاريخ وحضارات ودماء سالت على ضفافهما، وممالك انطوت.

ايران في خريطتها تذكرك ب ( سنام) جمل تضخم  خارج حدود المألوف، برأس قط يراقب بعيون نصف مغمضة، مستعد للوثوب، تركيا بخريطتها المستطيلة وامتدادها العرضي يوحي باسترخاء المحتل المتغطرس ، داخلها يخفي أشياءً متعرجة، خريطة سوريا جميلة متوازنة،لا نتوء نشاز فيها، سوى إبهام ممتد نحو الشمال، لكن الجمال فيها مهدد، خرائط دول عربية ( مصر، ليبيا، الجزائر) تبدو كأشكال هندسية وخطوط مستقيمة، مرسومة بمسطرة على عَجٓل، لبنان صغيرة نحيلة، تشبه سبابة تشير إلى البحر، ليس بمقدورها صد العواصف والأمواج، بالكاد تُرى وسط العالم بنظر الجغرافيا، وفي عيون التاريخ لبنان أكبر من حجمها ألف مرة، لكنه لا يستطيع ان يوسع رقعته، بل مزّقه الغزاة وعبثوا في أمنه. خريطة فلسطين أكثر الخرائط تمثيلاً في الرسم، وظفها الفنانون كعنصر بصري مشحون بالعاطفة والاحتجاج، الشكل: إمرأة مقطوعة الرأس، تدير ظهرها إلى العرب والجسد متكىء على خط وهمي مستقيم، وجهته نحو الساحل، يقول عن نفسه: لست مثالياً لكنني حقيقة مجروحة في مواجهة التقسيم والتسويات المرحلية. الخرائط لغة صامتة لكنها تبوح بالكثير، وللبلدان لغة حوار مع خرائطها. قدر بعضها أن تكون أشبه بشريط ممدود على الأرض (تشيلي في امريكا اللاتينية، ارتيريا في أفريقيا)، وأخرى تزحف بدل أن تمشي، إيطاليا تشبه حذاءً بكعب عال يخوض مياه البحر المتوسط، الصومال ذراع تمتد، أو منقار نسر، الأردن تبدو كقبضة سلاح موجه نحو الشرق، وخارطة الهند كضرع بقرة حلوب يتدلّى نحو المحيط.

هنا في هذا التشبيه تتداخل المعاني بين الشكل الجغرافي. والواقع الإجتماعي والاقتصادي. لا يمكن لهذا التشبيهات بالطبع ان تستثمر كصور بلاغية تعكس توتراً أو موقفاً معيناً. وفي جغرافيا الأقدار لا تتساوى البلدان، ثمة من تشهق بالماء، تهبط على شواطئها السفن بلا استئذان، وأخرى محاصرة تسعى للنجاة من اليابسة، لا باب ولا كوّة صغيرة نحو الفضاء وأفق البحار. قدر البلدان أن تتناثر جزراً في المحيطات كالأحلام، منها ما يكتفي بعزلته أو ينام. ومنها ما يعاد رسمه كلّما شاء الأقوياء.

***

د. جمال العتابي

 

في المثقف اليوم