شهادات ومذكرات

محمد تقي جون: مقتل المتنبي ومكان قبره

مقتل المتنبي: في يوم السبت 24 رمضان سنة 354هـ، الموافق 23 سبتمبر سنة 965م، قتل أبو الطيب المتنبي (في النعمانية) من قبل مجموعة كبيرة مسلحة، راجعا من شيراز عاصمة البويهيين، حيث حلَّ ضيفاً على السلطان (عضد الدولة البويهي). وكان المتنبي قاصدا بغداد في طريقه الى الكوفة.

كان مع المتنبي مجموعة، مثلما كان في مجموعة حين هرب من مصر الى الكوفة. وهي مجموعة صغيرة كما يفهم من بعض المصادر، وليس - حسب مصادر اخرى –ابنه محسد وغلامه مفلح فقط. وحين وصلوا الى منطقة مقطوعة عن الناس والنجدة، وبينما كانوا في استراحة، باغتتهم جماعة من اللصوص؛ قطاعي الطرق الطاعنين من الخلف كما يسميهم الانجليز (Back shoot). فسقاهم المتنبي وجماعته كؤوس الموت مصبَّرة فأفنوهم عن اخرهم. وجاء في بعض المصادر انهم استنجدوا بغيرهم من اللصوص، اذ اساؤوا التقدير وظنوا انهم يكفون جهلا بشجاعة الشاعر البطل. فعُززوا بالمزيد من اللصوص قطاعي الطرق. ولكن لم يكن عدد قطاع الطريق بمجملهم – وحسب معطيات الهجوم الاول- كافيا لحسم المعركة. لذا طلبوا من فاتك الاسدي ان يتحين غفلة وانشغال المتنبي بالقتال فيرميه بالرمح عن بعد جبنا عن مواجهته بالسيف، كما قتل وحشي حمزة بالرمح عن بعد مستغلا انشغاله بالقتال، فرماه برمح طويل فقتله. وبعد قتله قتلوا من معه بسهولة.

تلك هي المعركة التي لم تذكرها المصادر بتفاصيلها، سوى اشارات قمنا بتجمعها فضلا عن مراثي المتنبي التي أفادت في امور جوهرية، وتقديرنا للموضوع بشكل عام. وسبب عدم ذكر المصادر لها مفصلة هو محاولة طمس اي مجد للشاعر، كما ان بني اسد بعد تبني عضد الدولة (ملف الجريمة) صاروا يختلقون ويوهمون في موضوع قتله.

لقد فضَّل المتنبي القتال على فداء نفسه الثمينة بما يحمل من حطام تافه؛ لأنه لم يعد يحرص على الحياة، وحياته خاوية من هدف، فارغة من رغبة، فهو يعيشها بلا تخطيط لشيء أو تحصيل شيء. كما أبى عليه كبر نفسه ورجولته قبول اهانة (التسليب). فحين استشار حاله قرر المواجهة فورا. كان اللصوص الخيار غير المطروح الذي يتمناه لرسم نهاية مشرفة له. اذ لم تعد أرض قديمة تقبله، فكلها تركها غاضبا عليها أو غاضبة عليه. ولم تعد أرض جديدة تغريه بعد نفض يديه من طموحه. فهو ميّت سريريا، ويتمنى رصاصة الرحمة خاتمة كريمة.

لقد تنكرت له الارض جميعا والناس أجمع، ولم يعد له تخطيط مستقبلي، وماضيه مات، وحاضره ارض متزلقة غير ثابتة، أي انه خارج الزمن وأبعاده الثلاثة. انه يقصد بغداد ثم الكوفة التي لا يتصور كيف يستقبلها او تستقبله، ولكن مندفعا اليها بلا هدى. فبرزت المواجهة أفضل الحلول وأشرف النهايات. وهنا راودته أيام البطولة واحلام الرجولة فاندفع اليها؛ لقد أنشد طوال عمره للحرب والانتصار والبطولات السامية شعرا نادر الحماسة والفن نظريا، وها هي فرصة تتاح لتجسيدها على ارض الواقع عمليا. وقد مر عهد طويل للخمول، ربما تهدلت قوته، وصدئ سيفه، وتأطر رمحه. فليجرد سيفه فيشحذه في الرقاب، وليطعن برمحه فيقوّمه في الاجساد، وينتصر عزيزا، أو يقتل كريما بين طعن القنا وخفق البنود.

كان المتنبي في اعظم ارتياحه وهو يرى اللصوص يهاجمونه وهو يصول ويجول فيهم وبينهم وعليهم وتعلو صيحاتهم وتتهاوى أجسادهم، ويعانق الطعان والحراب (أحلى محبيه اليه) فليس صحيحا انه هرب، ولا انه تدنس بخوف او حزن. لقد طلع اليهم مثل سهيل لموت ابناء الزناء، وجرت معركة عظيمة على صغر مساحتها وقلة شخوصها، معركة أخفى الجبناء تفاصيلها تشويها وقلبا لموازين احداثها وحقيقتها. لقد اكتسحهم بطوله الفاره وجسده الضخم وملامحه المرعبة وسيفه القرضاب ومجنّه الضافي، لقد برز المتنبي بشخصيته الحقيقية بعد نزع شخص الشاعر عنه تماما، فحبذا لو وجدت كاميرا تصور المشهد. وحينما عجزوا عنه، وطلبوا النجدة، واستسلمت رجولتهم الخائبة نادوا على فاتك فلم يجرؤ على التقدم اليه ومطاعنته بالسيف، فسدَّد اليه رمحا طويلا ومن مسافة طويلة جبنا وخزيا فرماه كما رمى وحشي حمزة. لقد كان قتل المتنبي جزئية من هرم عظمته الباذخة.

اذا افترضنا أن تحقيقا أجري في مقتل المتنبي لمعرفة الجاني، فسينتهي التحقيق الدقيق الى دواعي قتل المتنبي واحتمالاته الاتية:

1- الحسد: كان المتنبي محسودا بالفعل، وهو يعرف ذلك ويدركه. وقيل انه خمَّل (400) شاعر في حياته، وأزاح (الشاعر النامي) عن الصدارة في حلب لدى سيف الدولة وكان شاعره المفضل قبل المتنبي، وهذا ازعج النامي كثيراً، وتشاجر مع المتنبي أبو فراس الحمداني أمام سيف الدولة حنقا عليه لحمل سيف الدولة على طرده، وتمكن هؤلاء من حمل المتنبي على ترك سيف الدولة أخيرا، كما حملت حاشية بدر بن عمار المتنبي على ترك الامير. وحاول ابن العميد تخميل المتنبي باعترافه، وحتما ما لم يذكر ويؤشَّر أكثر مما ذكر وأشّر. وفي بغداد شن الشعراء والكتاب الحرب السافرة على المتنبي، فكتب الحاتمي مناظرة يتطاير منها الشرر واذا وقعت المناظرة بالفعل بينهما فما كتبه أكثره افتراء وكذب وشفاء لغليل الحقد والحسد. وانبرى الصاحب بن عباد بعد ان تجاهله المتنبي يغيّر في أبيات المتنبي ثم ينتقدها بلا خجل ولا وجل. من مثل قول المتنبي:

إِنّي عَلى شَغَفي بِما في خُمرِها

لَأَعِفُّ عَمّا في سَرابيلاتِها

وسرابيل تعني الثياب. وهو معنى متسق ولائق، أي اني مع حبي الشديد لجمال وجوه النساء فأنا أعف عن التفكير في ما تحت الثياب. فجاء الصاحب فغيّر (سرابيلاتها) الى (سراويلاتها) ثم علق (كثير من العهر خير من هذا العفاف). واغرى الوزير المهلبي كلاب الشعر في بغداد فاثخنوه بالفظِّ والساقطِ من القول كابن لنكك وابن حجاج وابن سكرة. ومرة اعترض طريقه ابن حجاج فقرأ عليه ابياتا فاحشة تدل على سقوطه الثقافي والاخلاقي لا يسمح فحشها القبيح من ايرادها، فصبر المتنبي ساكتا حتى اكملها وانصرف الى بيته. ولا يبعد أن دس الوزير المهلبي من قتله، أو ان احد هؤلاء الادباء المتمنين موته دبر قتله، وقد ورد في خبره معهم (أنه ترك بغداد الى ايران مراغما).

2- أهاجيه للكبراء وثوراته: كان للمتنبي أهاج في الامراء والوزراء والملوك، وقد روي انه قال (أنا لا أمدح الا الامراء والملوك، ولا أهجو الا الامراء والملوك)؛ فقد هجا الوزير (ابن كروَّس) احد رجال الامير بدر بن عمار، وهجا (أحمد بن إبراهيم بن كيغلغ) أحد امراء العباسيين، وهجا (السامري) كبير كتاب سيف الدولة، وهجا كافورا الاخشيدي، وهجا الملوك والامراء الاعاجم. كما قام المتنبي بحركات وثورات كثيرة فهو شخصية خلافية ثورية (مِسعر حروب ورجل انقلابات). وقد مر انه قام بثورات او محاولات كثيرة في مرحلته الاولى في الشام، وحركة لدى سيف الدولة، ثم تدبير الاطاحة بكافور الاخشيدي في مصر. ويبدو انه اقلق عضد الدولة فحين قرئت عليه مقصورة المتنبي وجاء البيت:

لتَعلَمَ مِصرُ وَمَن بِالعِراقِ

وَمَن بِالعَواصِمِ (أَنّي الفَتى)

نهض من دسته مذعورا وقال (هو ذا يتهددنا المتنبي).

وازدرى المتنبي ابن العميد وهو يقصده هاربا من أدباء او عملاء بغداد؛ فحين وصل الى مشارف ارجان ضرب بيده على صدره وقال: (تركت ملوك الأرض وهم يتعبدون بي وقصدت رب هذه المَدَرة فما يكون منه). وقد سبق ان ابن العميد كان يحسده على شهرته. وقد عرَّض بعضد الدولة وفضل عليه سيف الدولة في العطاء فقد ذكر الصفدي ان عضد الدولة اجزل له العطاء ودس عليه من سأله فقال له: (أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟ فقال: هذا أجزل إلا أنه عطاء متكلف وسيف الدولة يعطي طبعاً، فغضب عضد الدولة وأذن لقوم من بني ضبة فقتلوه). واتهم الجواهري عضد الدولة بقتله. ولا يستبعد أن أحدا ممن ذكرناه قد قتله أو أغرى بقتله.

3- أنا استبعد قضية هجاء المتنبي لضبة الاسدي ومن ثم انتقام خاله فاتك الاسدي منه بقتله. ولكن لا يستبعد ان قطاع الطرق قد قتلوه، وكان الشائع ان المتنبي يأخذ أمواله معه حيث حلَّ، وليس ببعيد أن احد قطاع الطرق طمع فيه بعد أن أصبح في الصحراء لقمة سائغة. ولدينا قصيدة لثابت بن هارون الرقي يستثير عضد الدولة للانتقام للمتنبي من بني أسد منها:

صه يا بنَي أسد فلستِ بنجدةٍ

أثرتِ فيه بل القضاء يقيد

*

هذي بنو أسد بضيفك أوقعت

وحوت عطاءك إذ حواه الفدفد

فالقصيدة تسمي بني أسد قتلة وسلبة. ولو كان فاتك آخذا للثأر (ولم نسمع ان شاعرا قتل على هجاء) لما سلب مال المتنبي، ولما قتل ابن المتنبي وخادمه. وقد يكون فاتك قاتلا مأجورا من قبل كل الذين ذكرناهم من القاتلين المحتملين للمتنبي، وقد حانت الفرصة المناسبة لقتله في الصحراء المنقطعة وحده بلا حماية، وغير داخل في حيز ومسؤولية أحد.

فمن قتل المتنبي؟

سؤال واحد وأجوبة شتى! وها نحن نلقي دلونا في الدلاء للإجابة عليه، مستخدمين الادلة المستنبطة من شعره، ومن الآراء والاحكام التي أطلقها الباحثون قبلي، بتركيز وبحث علمي دقيق ورصين، بحيث لا نترك فجوة بقدر سمّ الخياط يدخل منها الخطأ أو يخرج منها الصواب. ان المتهمين بقتل المتنبي ستة لا سابع لهم، وهم:

1- كافور الاخشيدي؛ لان المتنبي هجاه وسخر منه، وأضحك عليه الأمة.

2- عضد الدولة؛ لان المتنبي هجا سلاطين العجم، ونعتهم بشرّ النعوت، وكان يرى انهم سبب خراب الدولة وضياع الامة، وان العرب أفضل من يسوس الملك ويحكم المسلمين:

وإنما الناسُ بالملوكِ، وَما

تُفْلِحُ عُرْبٌ مُلُوكُهَا عَجَمُ

*

لا أدبٌ عندهُمْ ولا حَسَبٌ

ولا عُهُودٌ لَهُم ولا ذِمَم

وتروي المصادر ان عضد الدولة حين سمع افتخار المتنبي بقوله:

لِتَعلَمَ مِصرُ وَمَن بِالعِراقِ

وَمَن بِالعَواصِمِ (أَنّي الفَتى)

كان مضطجعا فنهض قائلا: (هو ذا يتهددنا المتنبي)!

3- الصاحب بن عباد؛ لأنه عرض على المتنبي أن يمدحه بقصيدة مقابل نصف ثروته، فقال المتنبي متهكما به ومستصغرا اياه: (إن غليِّما معطاء بالري يريد أن أزوره وأمدحه، ولا سبيل إلى ذلك)! فنصب الصاحب له العداء. وليس ببعيد أنه أغرى جماعة بقتله.

4- الوزير المهلبي؛ لان المتنبي أعرض عن مدحه؛ لِمَا رآه فيه من مجون وتهتك. وكان المهلبي ينتظر من المتنبي مدحه بتلهف، فخيّب ظنه. وربما فكر بقتله انتقاما منه.

5- فاتك الأسدي. فحسب ما يروى في قصة طويلة ذات تفاصيل، ان المتنبي هجا ابن أخته (ظبَّة) بقصيدة شنيعة، فحلف هذا أن يقتله، وتحيّن الفرصة حتى أمكنت والمتنبي خارج حدود حكم عضد الدولة، فقتله.

6- قتله قطاع الطريق طمعا بثروته التي باتت حديثا مألوفا عن المتنبي.

فكل هؤلاء ممكن أن يكون قد قتله. ولكن قد يفيدنا استقراء الحقائق في حصر دائرة الشك، وقد يقودنا البحث الى معرفة الحقيقة ونتعرف الى القاتل.

ما يخص كافورا الاخشيدي، لم يكن الاغتيال السياسي وعمليات تصفية الخصوم خارج الحدود قد عرفت بعد. ويعد الحشاشون أول من قام بذلك في القرن الخامس الهجري. وكافور قتل واغتال كل من هدد سلطانه، وقد حبس المتنبي في اقامة جبرية حين شكّل خطرا على دولته، بتآمره مع خصومه (فاتك الرومي وشبيب العقيلي)، أما بعد خروجه من مصر فلا خطر للمتنبي عليه، ومستبعد أنه وضع في عنايته ارسال شخص لقتله. ونستطيع التأكد من المتنبي نفسه، فانه أعرف بالرجل، وهو صاحب فطنة واحتراز، وقد عاش في العراق وايران بعد هروبه من كافور حياة طبيعية جدا ليس فيها أقل احتياط. وهذا يستبعد كافورا قاتلا للمتنبي.

كما يستبعد تماما عضد الدولة على الرغم من اتهامه من قبل بعض الباحثين، فضلا عن الجواهري الذي يقول:

يدٌ لفاتكَ كانت آلةً رفعتْ

وراءه خبِّئت من آخرينَ يَدُ

فالمتنبي ذهب اليه اختيارا وليس اجبارا حين عرض عليه ابن العميد دعوة عضد الدولة لزيارته. وقد استقبله عضد الدولة احسن استقبال، وكان معجبا به يفضله على أبي تمام والبحتري معاً (قيل: كان عضد الدولة جالساً في البستان الزاهر يوم زينته وحفله وأكابر حواشيه وقوف سماطين، فقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الحكامي: ما يعوز مجلس مولانا سوى أحد الطائيين.  فقال عضد الدولة: لو حضر المتنبي لناب عنهما). واجزل له العطاء. وحين سافر المتنبي عنه أرسل معه حماية الى حدود مملكته. ولم يكن المتنبي يهدد حكم عضد الدولة أقل تهديد، حتى نغمة الثورة في شعره اختفت، والحصان الاسطوري الذي كان يحقق الانتصارات الحربية صار في ايران صديقا مسالما، مؤنَّبَ الضمير على ترك جمال الطبيعة الى الحرب:

يَقولُ بِشِعبِ بَوّانٍ حِصاني

أَعَن هَذا يُسارُ إِلى الطِعان؟!

*

أَبوكُم آدَمٌ سَنَّ المَعاصي

وَعَلَّمَكُم مُفارَقَةَ الجِنانِ

وقد رافق المتنبي عضد الدولة في حله وترحاله، وفي رحلات صيده، وكتب اراجيز مشهورة في ذلك. ولم يكن المتنبي قلقا من عضد الدولة، وما ذكره من الخوف أول مرة في شعره فيرجع الى كبير نباهته، واستشعاره الخطر، وحدسه العجيب، وتوقعه الخطر في الطريق يرجع الى تنبؤه:

وَأَيّا شِئتِ يا طُرُقي فَكوني

أَذاةً أَو نَجاةً أَو هَلاكا

*

يُشَرِّدُ يُمنُ فَنّاخُسرَ عَنّي

قَنا الأَعداءِ وَالطَعنِ الدِراكا

*

وَأَلبَسُ مِن رِضاهُ في طَريقي

سِلاحاً يَذعَرُ الأَبطالَ شاكا

ويضاف الى الادلة طلب ثابت بن هارون في رثائيته للمتنبي من عضد الدولة وقد ألقاها بحضرته، أن يثأر له من قتلته بني أسد التي قتلته وسلبته، بوصفه كان ضيفا عنده وفي حماه. وهي (شهادة براءة عضد الدولة) من قتله، فثابت من معاصري الحدث، فهو يعطي رأيه الاقرب الى الصحة، وانطباع جيله. ولو كان هناك لغط باتهام عضد الدولة لذكر:

يا أيها الملك المؤيد دعوة

ممن حشاه بالأسى يتوقدُ

*

هذي بنو أسد بضيفك أوقعت

وحوت عطاءك إذ حواه الفدفدُ

*

وله عليك بقصده يا ذا العلى

حق التحرم والذمام الأوكدُ

*

فارع الذمام وكن بضيفك طالباً

إن الذمام على الكريم مؤبَّدُ

*

ارع الحقوق لقصده وقصيده

عضد الملوك فليس غيرك يقصدُ

فعضد الدولة بريء نهائيا من دم المتنبي.

كما يستبعد الوزير المهلبي والصاحب بن عباد؛ فكلاهما لا يجرؤ على قتل ضيف عصد الدولة. الوزير المهلبي يعلم ان الحكم الحقيقي بيد البويهيين وليس بيد الخليفة العباسي الذي يعمل وزيرا له. والصاحب بن عباد أكثر بعدا؛ لأنه من كتاب البويهيين. فلا يجرؤ حتى بالتفكير في اغتيال ضيف سلطانهم وان كان يبغضه ويحسده.

فلم يعد في دائرة الاتهام غير (فاتك الاسدي وبني أسد) المعروفين بقطع الطريق. ولم يذكر الراثون للمتنبي ان فاتكا الاسدي قتله، ولا السبب المفتعل لقتله اياه وهو دفاعا عن شرف ابن اخته الذي انتهكه المتنبي بقصيدة هجائية مقذعة. فذكر ابن جني – كما تقدم – ان المتنبي قتل بالرماح، وسلب حتى ثيابه، دون ان يصرّح أو يلمّح الى القاتل. وذكر ثابت بن هارون ان بني أسد قتلته وسلبته في قصدته التي ذكرنا أبياتا منها في تحريض عضد الدولة على الثأر من قاتليه.

وذكر ثابت بن هارون أن بني أسد سلبوه، وهو يوافق هذا التحليل. ولم يذكر (فاتكا الاسدي) مما يدل على أن قتله لسبب التسليب طمعا بثروته. أما القصة الطويلة العريضة عن قتل فاتك الاسدي للمتنبي انتقاما لابن اخته (ظبة) لان المتنبي هجاه هجاء فاحشا مخلا بالشرف، فهو محض افتراء وتنميق قد وضعوه لاحقا. وأرى ان عضد الدولة بعد أن حرَّضه الشاعر النصراني ثابت بن هارون على اخذ ثار المتنبي (ضيفه) من بني أسد، وقد افتضح ان قاتله الفعلي (فاتك الاسدي) بسبب التحقيق الجاد من قبل السلطان البويهي، التجأ بنو أسد الى اختلاق قصة هجاء المتنبي بقصيدة فاحشة لضبة ليتحول قاطع الطريق اللص السفاح الى رجل غيور منتقم للعرض، ومن ثم يغلق الملف على انه (تصفية حساب شخصي ودفاع عن الشرف) وليس تسليبا واعتداءً على حمى وضيف السلطان.

والقصيدة مكتوبة على (بحر المقتضب) وهو من البحور العباسية المستحدثة، ولم يكتب المتنبي على هذا البحر أو غيره من البحور المستحدثات (المصارع، المقتضب، المتدارك) قط. وهي على الرغم من صياغتها بعناية فائقة، لا تفوت على أهل الاختصاص وجهابذة الشعر. ان معرفة رأي المتنبي بالبحور المستحدثة وبحر المجتث خاصة، يدعو إلى التأني في قراءة القصيدة المنسوبة إليه واستحضار كل معرفتنا بتكوين المتنبي الشخصي والثقافي. بدءاً القصيدة مملوءة بالفحش والفجور وألفاظها يستخدمها الفسقة والساقطون وهو ما لا نجده في عموم شعر المتنبي الكيّس العظيم الهمة. ومن الناحية اللغوية، القصيدة تخلو من الجزالة المعهودة لدى المتنبي، وتكثر فيها ألفاظ سوقية لا ترد في شعر الفحول. وفي القصيدة توجد لفظة (تيبَه) مخففة من (تأبه) وهو استعمال غريب لم يذكره لا شاعر ولا ناثر، وليس بالمقبول البتة أن يتجاوز المتنبي على اللغة ويخالف الجميع. أما من الناحية الشعرية، فالأبيات كما وصفها ابن رشيق القيرواني (ركيكة)، وليست من قصائد اللفظ أو المعنى، وليس فيها أدنى مقدار من الشعرية. وان الحكم على صحة القصيدة من عدمها يقتضي حكماً موسيقياً أهم هو إيمان المتنبي القاطع – بوصفه شاعرا عروبيا يأنف من الكتابة على الاوزان المستحدثة – بأن هذه البحور لا تصلح لكتابة شعر عربي، المعروف بالتزامه قواعد الاسبقين في الأبجدية الشعرية برمتها. ويوضح رأي الشعراء العروبيين قول الزمخشري انهم لا يعترفون بالشعر الذي يكتب على غير أوزان العرب.

وذكر القاضي التنوخي ثلاثة أسباب لقتل المتنبي: الأول: انه كان معه مال كثير فقتله العرب واخذوا ماله، والثاني كلمة قالها عن عضد الدولة، فدس عليه من قتله، والثالث بسبب القصيدة. ونحن نجزم بما قدمناه أن السبب الاول أكثر إقناعاً.

والرأي النهائي في مقتله، أن قطاع الطريق من بني أسد – وهم معروفون بقطع الطريق – سلبوه ثم خافوا من بطش عضد الدولة لان المتنبي (ضيفه الغالي) الذي يحلم كل رئيس أن يحظى بمدحه، فاذا بالمتنبي يأتي بنفسه اليه ويمدحه. فقرروا قتله لكي لا يخبر عضد الدولة بسلبهم اياه، وكلفوا فاتك الاسدي، فقتله (طعنا بالرمح)، كما يوضح ابن جني ذلك في مرثيته:

سُلبتَ ثوبَ بهاء كنتَ تلبسه

كما تُخِطفتَ (بالخطِّيَّة السُّلُبِ)

وقد باغته فاتك خوفا من بأسه المشهور وشجاعته منقطعة النظير، لذا قال ثابت بن هارون:

ذقت الكريهة (بغتة) وفقدتها

وكريه فقدك في الورى لا يفقدُ

وهو وصف دقيق لشجاعة المتنبي وعدم مواجهته. وسلبوه ما حصل عليه من عطاء عضد الدولة:

هذي بنو أسد بضيفك أوقعت

وحوت عطاءك إذ حواه الفدفدُ

وبعد أن استعدى هارون بن ثابت الرقي عضد الدولة على بني أسد (قتلة المتنبي) واشتهر فاتك الاسدي بقتله، زرعت هجائية ضبة المسخ في ديوانه قسرا، كما زرعت ابيات وحرفت ابيات في ديوان المتنبي من قبل أدباء العراق. وقد أغرى بني أسد بقطع الطريق على المتنبي أكثر نيلُه عطاء ابن العميد وعضد الدولة، لما كان يشاع خطأ بأن المتنبي كان يحمل ثروته اينما ذهب، وقد صححنا هذه المعلومة بأنه كان يطوف في الاصقاع وما يحصل عليه من مال يعود به الى الكوفة. قال ابن العديم نقلا (وافى المتنبي ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والفضة والثياب والطيب والجوهر والآلة، لأنه كان اذا سافر لم يخلّف في منزله درهما ولا دينارا ولا ثوبا ولا شيئا يساوي درهما واحدا فما فوقه).

رثاء المتنبي

رثى المتنبي مجموعة من الشعراء والادباء والعلماء. فرثاه محمد بن اسحق التنوخي فقال:

إنّي لأعْلَمُ، واللّبيبُ خَبِيرُ

أنْ الحَياةَ وَإنْ حَرَصْتُ غُرُورُ

*

ورَأيْتُ كُلاًّ ما يُعَلّلُ نَفْسَهُ

بِتَعِلّةٍ وإلى الفَنَاءِ يَصِيرُ

*

أمُجاوِرَ الدَّيْمَاسِ رَهْنَ قَرَارَةٍ

فيها الضّياءُ بوَجْهِهِ والنّورُ

*

ما كنتُ أحسبُ قبل دفنكَ في الثّرَى

أنّ الكَواكِبَ في التّرابِ تَغُورُ

*

ما كنتُ آمُلُ قَبلَ نَعشِكَ أن أرَى

رَضْوَى على أيدي الرّجالِ تَسيرُ

*

خَرَجُوا بهِ ولكُلّ باكٍ خَلْفَهُ

صَعَقاتُ مُوسَى يَوْمَ دُكّ الطُّورُ

*

والشّمسُ في كَبِدِ السّماءِ مريضَةٌ

والأرْضُ واجفَةٌ تَكادُ تَمُورُ

*

وحَفيفُ أجنِحَةِ المَلائِكِ حَوْلَهُ

وعُيُونُ أهلِ اللاّذقِيّةِ صُورُ

*

حتى أتَوْا جَدَثاً كَأنّ ضَرِيحَهُ

في قَلْبِ كُلّ مُوَحِّدٍ مَحْفُورُ

ورثاه ابن جني بقوله:

غاض القريض وأودت نضرة الأدبِ

وصوَّحت بعد ري دوحة الكتبِ

*

سُلبتَ ثوب بهاء كنتَ تلبسه

كما تخطَّف بالخطيَّة السُّلُبِ

*

ما زلتَ تصحبُ في الجلَّى إذا نزلت

قلباً جميعاً وعزماً غيرَ منشعبِ

*

وقد حلبتَ لعمري الدهرَ أشطره

تمطو بهمَّةِ لا وانٍ ولا نصِبِ

*

من للهواجل تحيي ميتَ أرسمها

بكلِّ جائلة التصدير والحقَبِ

*

قبَّاءُ خوصاءُ محمودٌ علالتُها

تنبو عريكتُها بالحلسِ والقَتَبِ

*

أم من لسرحانِها يقريه فضلتَه

وقد تضوَّر بين اليأسِ والسَّغبِ

*

أم من لبيضِ الظُّبا توكافُهُنَّ دمٌ

أم من لسُمر القنا والزغفِ واليَلَبِ

*

أم للمحافل إذ تبدو لتعمرها

بالنظم والنثر والأمثال والخطب

*

أم للصواهل محمرَّاً سرابلها

من بعد ما غربت معروفة الشهبِ

*

أم للقساطل تعتمُّ الحروب بها

أم من لضغم الهزبر الضيغم الحربِ

*

أم للضراب إذا الأحساب دافعَ عن

تذنيبها شعرات الوكَّف القُضُبِ

*

أم للملوك تحليها وتُلبسها

حتى تمايسَ في أبرادها القُشُبِ

*

نابت وسادي أحزاني تؤرقني

لما غدوتَ لقىً في قبضة النُّوَبِ

*

عمرتَ خِدنَ المساعي غير مضطَهَدٍ

ومُتَّ كالنصل لم تدنَسْ ولم تُعَبِ

*

فاذهبْ عليك سلامُ الله ما قلقت

خوصُ الركائب بالأكوارِ والشعبِ

ورثاه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بقوله:

لا رعى الله سرب هذا الزمان

إذ دهانا في مثل هذا اللسان

*

ما رأى الناس ثاني المتنبي

أي ثان يرى لبكر الزمان

كان من نفسه الكبيرة في جيش وفي كبرياء ذي سلطان

هو في شعره نبي ولكن

ظهرت معجزاته في المعاني

ورثاه ثابت بن هارون الرقي واستثار له عضد الدولة على فاتك وبني أسد بقوله:

الدهرُ أغدرُ والليالي أنكدُ

من أن تعيشَ لأهلها يا أحمدُ

*

قصدتكَ لمَّا أن رأتك نفيسَها

بخلاً بمثلكَ والنفائِسُ تُقصدُ

*

ذقتَ الكريهة بغتةً وفقدتَها

وكريهُ فقدك في الورى لا يُفقدُ

*

ما كان تارِكَكَ الزمان لأهلِه

إنَّ الزمانَ على الغريبةِ يُحسَدُ

*

قلْ لي إن اسطعتَ الخطابَ فإنني

صَبُّ الفؤادِ إلى خطابكَ مُكمَدُ

*

أتركتَ بعدك شاعراً واللهِ لا

لم يبقَ بعدك في الزمان مُقصِّدُ

*

أما العلومُ فإنها يا ربَّها

تبكي عليك بأدمعٍ ما تَجمدُ

*

غدرَ الزمانُ به فخان ولم تزل

أيدي الزمان ببأسه تَستَنجِدُ

*

لقي الخطوبَ فبذَّها حتى جرى

غلطُ القضاء عليه وهو تَعمُّدُ

*

صَهْ يا بني أسدٍ فلستِ بنجدَةٍ

أثَّرتِ فيه بل القضاءُ يقيّدُ

*

يا أيها الملكُ المؤيَّدُ دعوةً

ممن حشاهُ بالأسى يتوقَّدُ

*

هذي بنو أسدٍ بضيفكَ أوقعت

وحوتْ عطاءَك إذ حواهُ الفَدْفَدُ

*

وله عليك بقصده يا ذا العلى

حقُّ التحرُّم والذمامُ الأوكدُ

*

فارعَ الذمامَ وكنْ بضيفك طالباً

إن الذِّمامَ على الكريم مؤبَّدُ

*

ارعَ الحقوقَ لقصدِهِ وقصيدِهِ

عضدَ الملوك فليسَ غيرُكَ يُقصَدُ

قبر المتنبي

عندما تنعطف من الشارع العام بين الكوت وبغداد الى النعمانية، فتسير مسافة ثلاثة كيلومترات، يقوم على جهة اليمين ضريح عال بتصميم مميز يطلق عليه (قبر الشاعر المتنبي).

كان هذا القبر لشخص مجهول يسمونه (أبو سورة). وكان يعتقد انه إمام أو سيد مبارك، لذا قام حمودي الشكور (من وجهاء المنطقة)، ببنائه من طين في الثلاثينيات من القرن الماضي، وقامت حوله مقبرة للأطفال، ثم ازيحت لاحقا ليبنى هذا الضريح المعروف اليوم.

ويذكر (مبين خشاني) ان الطبيب والاديب (عادل البكري) هو من اكتشف قبر المتنبي! بناء على (وجود قبر قديم يسمى أبا سورة، وهو شاعر مجهول)، ولكون القبر (في النعمانية، والمتنبي قتل في النعمانية). فاتصل في عام 1964 بأمانة بغداد، ومديرية الاثار العامة، والمجمع العلمي العراقي، وبعض الشخصيات منهم: الدكتور مصطفى جواد، والدكتور خليل العطية، فضلا عن القائمقام، فعاينوا الضريح (واتفقوا) انه قبر المتنبي. واقاموا مهرجانا شعريا دوليا، ثم نصبوا في المكان نصب المتنبي القائم اليوم.

لقد حُدّد قبر المتنبي في هذا المكان بناء على افتراضات غير صحيحة، والرغبة في أن يكون للمتنبي قبر في المكان الذي قتل فيه، يكون رمزا تعتز به محافظة واسط وقضاء النعمانية. ولم تكن اللجنة المشكلة لتحري حقيقة القبر تمتلك المعلومات الكافية للقطع بالحقيقة؛ فقد اعتمت على ما ظنه البكري، بناء على امرين: (وجود قبر قديم يقال انه لشاعر مجهول في مدخل النعمانية)، و(كون المتنبي قتل في النعمانية وهو في طريقه الى الكوفة).

ان الخلط وعدم الدراية بخارطة العراق في العصر العباسي هو الذي اوقع اللجنة في الخطأ، وبنوا على (أبو سورة) ضريحا وصرحا كبيرا مميزا وقالوا انه للشاعر أبي الطيب المتنبي. لانهم ظنوا بسبب جهلهم لجغرافيا العراق في العصر العباسي أن المتنبي كان يريد الذهاب - قادما من الاهواز - من واسط الى الكوفة عبر النعمانية، لوجود طريق سالك ومعبّد اليوم من الكوت الى الكوفة. وقد نوَّهنا بأنَّ العباسيين قطعوا الكوفة عن الشرق: واسط وايران وغيرها، فلم يجعلوا طريقا للكوفة الى الشرق. فالطريق الذي يربط اليوم بين النعمانية والكوفة حديث لم يقم في العصر العباسي مثله. كما توضح أقدم خارطة للكوفة.

فهذا القبر اذن لرجل يلقب بـ(أبو سورة) مجهول الاسم والشخصية. وأيا ما يكون فقبر أبو سورة ليس قبر المتنبي. أما قبر المتنبي، فقطعا ان عضد الدولة البويهي وجّه بدفنه في مقبرة محترمة لانه ضيفه. وجرت العادة أن يحمل رفات الذي يموت في الطريق الى اقرب مقبرة ولا يترك في مجاهيل الطريق تنبشه الضباع والكواسر، فاكرام الميت دفنه في قبر يحفظه من نبش الانسان والحيوان. فكيف والمتنبي بهذه الشهرة المطبقة لأرجاء المعمورة، وهو ضيف أقوى سلاطين المسلمين، يترك في رمال الصحراء؟؟!!

ولو كان دُفن حيث قتل لمناسبة المكان لذلك، لبنوا فوقه قبة، وحددوا له قبرا يزار، كما بنوا على قبر ابي تمام في الموصل قبة. والاصح الارجح أن قبر المتنبي دفن في مقبرة بإيران فاندرس مع قبور تلك المقبرة.

رحم الله أبا الطيب المتنبي، وغفر له، وأسكنه غرف الجنان

***

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون

............................

* من كتابي المخطوط: (المتنبي من الكوفة الى الكوفة)

في المثقف اليوم