نصوص أدبية
رنا خالد: سماء لا تعرف الانحناء

في أحد الأحياء الهادئة في المدينة، كانت "رُبى" تسير بخطوات واثقة نحو الجامعة. امرأة في منتصف الثلاثينات، تتلفّح بكبرياء ناعم لا تصنعه الكلمات، بل تبنيه التجارب. خلف نظارتها الصغيرة عينان تلمعان بعزيمة من طراز نادر. لم تكن الحياة سهلة معها، لكنها لم تكن يومًا من أولئك الذين يطلبون الحياة سهلة.
"رُبى" كانت قد توقفت عن الدراسة بعد الماجستير بعام واحد فقط من نيلها الشهادة. في وقت كانت الفرص تفتح ذراعيها لها، جاءت العاصفة. والدها أصيب بعارض صحي خطير، والعبء المالي والعائلي وقع على عاتقها. أخواتها الثلاث كنّ لا يزلن في المدرسة، وأمها ضعيفة البنية، لا تملك سوى دعائها الدافئ وصبرها الطويل.
لم تكن الظروف سهلة، لكنها لم تسمح لنفسها بالاستسلام. عملت في أكثر من وظيفة، كانت تدرّس في النهار وتكتب مقالات علمية لطلبة الدراسات العليا ليلًا، تجمع دينار فوق دينار لتُعيل أهلها وتحافظ على بقايا حلمها. مرت السنوات. ومع كل سنة، كانت تسجل في مفكرتها: "لم أنسَ الدكتوراه، وسأعود." لم يكن ذلك مجرد وعد تكتبه بقلم، بل عهد بين قلبها وسماء كرامتها.
ذات مساء، وفي لحظة صفاء داخلي، نظرت إلى المرآة وقالت: "حان الوقت." في اليوم التالي، بدأت رحلتها في التقديم للمنحة التي لطالما حلمت بها. لم تكن سهلة، فالمنافسة شرسة، وهي امرأة تجاوزت الثلاثين، من دولة تتقلّب فيها الظروف، وبملفٍ دراسي توقف منذ سبع سنوات.
لكنها لم ترَ في ذلك عائقًا، بل حافزًا. كتبت خطاب الدافع بلغة صادقة، تحدثت فيه عن الشغف والعقبات والصلابة. قدمت ملفها، وانتظرت.
وفي تلك الفترة، كانت تنهض قبل الفجر، تقرأ أبحاثًا حديثة، تحضر ندوات افتراضية، وتتواصل مع أساتذة في الخارج. كانت تستعد ليس فقط لقبولها، بل لتميزها إن قُبلت.
وجاء اليوم المنتظر. بريد إلكتروني يحمل العنوان: "تهانينا!" فتحت الرسالة، ويدها ترتجف. لقد قُبلت في جامعة أوروبية مرموقة بمنحة كاملة.
في تلك اللحظة، لم تبكِ. فقط أغلقت الحاسوب، وخرجت إلى الشرفة. وقفت تحت السماء، رفعت رأسها عاليًا، كما اعتادت أن تفعل في كل سقوط. تمتمت: "عرفتُ أن السماء لا تخذل من لا ينحني." سافرت، وبدأت مرحلة الدكتوراه. لم يكن الطريق مفروشًا بالورود، لكنها اعتادت المضي في الطرق الصعبة. كانت تواجه تحديات اللغة، والاختلاف الثقافي، والحنين، لكن شيئًا في داخلها ظلّ صلبًا لا يتزحزح: "لن أعود دون الدكتوراه."
مرت سنوات. وفي قاعة كبيرة، ارتدت ثوب التخرّج، ووقفت لتلقي كلمتها أمام الحضور. كانت كلماتها بسيطة، لكنها قوية: "أنا لستُ هنا فقط بفضل علمي، بل بفضل كبريائي، الذي لم يسمح لي يومًا أن أنسى من أكون، وأين أريد أن أصل."
وحين نزلت من المنصة، صافحت أساتذتها، ثم نظرت في عيون والدتها التي حضرت الحفل، وقالت لها: "لقد وعدتُكِ، وها أنا أوفي."
***
قصة قصيرة
رنا خالد