نصوص أدبية

نزار فاروق: كافيه فلوريان

أو من يهتمّ بالتّاريخ الحقيقيّ للقهوة في اَلْبُنْدُقِيَّةُ

في "فينيسيا"، مطرُ أكتوبر،

يوقظ حنينًا فاتنًا،

كأنّه كُتب خصّيصًا للشّعراء التّائهين،

الذّين لا يسألون عن الطّرق الواضحة،

بل عن أثر شعورٍ أفلت أو سيفلت منهم،

في لحظات عشقٍ هجين،

وُلدت لتُجهض قبل أن تستهلّ.

*

أمام فندق "سانتا كيارا"،

يبدو كلّ شيءٍ مؤقّتًا:

الزّمن، الحقائب، الملامح، الإيماءات،

والقصائد التّي لم و لن تُكتب.

المدينة العائمة تستيقظ ببطء،

كأنّها لا تزال تتردّد: هل كانت حلمًا أم أثرًا؟

*

شعراءٌ مجهولون،

يمرّون بخفّةٍ في الضباب،

أحذيتهم مبتلّة،

ونظراتهم معلّقة في القنوات،

في عينيها الصّقليّتين،

في شعرها الأسود الجنوبيّ

الذّي كانت تداعبه الرّياح الشّماليّة

على أدراج مدخل محطة "سانتا لوتشيا".

*

باعة المظلّات الغرباء

يتسلّلون كعصافير بلّلها اللّيل،

ينادون بلغاتٍ مكسّرة،

ويعرضون مظلاتهم على سياحٍ يائسين،

حرمهم المطر من التقاط مئات " السيلفي "،

كأنّ "فينيسيا"، لم تكن تستحقّ كلّ هذا العناء،

ما لم تُعلّق بابتسامةٍ مصطنعة على حساب "إنستغرام" مزدحم بالتّفاهة و اللّؤم.

*

الجنادل المهجورة،

تئنّ تحت وطأة الماء والزّمن،

وأقواس الجسر قرب “البيازيتا” تلمع بلؤلؤية حزينة،

برج جرس "سان ماركو " يذوب في الضّباب.

لكنّ المطر، كما يفعل دائمًا،

أوقف الزمن،

أمام كوبٍ لم يُطلب بعد .

*

"صباح الخير يا سيدي! Bienvenuto!

هذا أقدم مقهى في العالم!"

يعلنها النّادل المتأنّق بحماسٍ إيطاليّ مثير،

يضع " الكابوتشينو " بجوار مسودّة عن تاريخ القهوة.

لكنّ "الكابوتشينو" لم تكن الغاية،

بل هدنة مع المطر،

ومقعدٌ يطلّ على لحظة لا تصلح للعرض،

بل للهروب نحوما تبقّى في قاع الكوب،

الرَّغْوَةُ أَوَّلًا،ثمْ الحنين المشاكس.

ويبقى الكوب فارغًا إلاّ من رغوةِ الذّكرياتِ،

و هذه الخواطرالمغتربة التّي وُلِدت،

في "كافيه فلوريان" العتيق.

***

نزار فاروق هِرْمَاسْ

شارلتسفيل -جامعة فيرجينيا

البندقيّة،21 أكتوبر،2024

في نصوص اليوم