نصوص أدبية

سنية عبد عون: شهيق وزفير

تعانق نسيمات الصباح خصلات شعرها الأشيب الذي يحمل قصصا من ماضيها الذي لا تود ان تبوح به لأقرب الناس اليها.

كعادتها تجلس قبالة باب الدار فربما يزورها أحدهم تنتظر دون ملل مرتمية فوق كرسيها الخشبي المتهالك تحت شجيرة الياسمين. وبعد ان يخذلها الانتظار تعود الى غرفتها صامتة تجر أطراف شالها الأخضر بلون أمانيها.. وهمسات الحنين تسكن أضلاعها.

تمسك ست وداد قلما ودفترا وتكتب بسرية تامة دون ان تسمح لأحداهن ان تعرف شيئا عن مذكراتها أو ربما تكتب قصة حياتها في دفتر كأنه سجل مدرسي لونه يميل للرمادي الغامق انه يذكرها بسجلاتها المدرسية قبل احالتها على التقاعد.

عشرون عاما واسمها يتصدر لوائح مديرية التربية كأفضل مديرة مدرسة في تلك المدينة اضافة لكونها ربة أسرة وأم لثلاثة أبناء ذكور. وها هم اليوم رجال ملتحون.

أستشهد زوجها في حرب الثمان سنوات. ولن يثنيها هذا عن دورها كأم مكافحة في بيتها ومربية ناجحة في مدرستها.

متوسطة القامة ومكتنزة قليلا لكن ملامحها تنبؤ بما كانت تتمتع به من جمال في سالف أيامها. وما زالت شديدة الاهتمام بملبسها واناقتها التي عرفت عنها دائما الست وداد.

الظروف وضعتها هنا رغما عنها. وهي تتأبط سجلها وصندوق يحمل كل ذكرياتها وسرها الذي لا يعرفه سواها. كانت تكتب رسائلها التي لا ترسل، ولا زالت تتذكر صوته حين قال لها: ان ضاعت الأيام فلا تدعي الحب ان يضيع.. انتظريني سأعود، لكنه لم يعد وبقيت هي كما وعدته تنتظر.. وكل ما تملكه هو صوته في آخر لقاء ونظرة طويلة بدرت منه قالت كل شيء وكأنه تنبأ لفراقهم الأبدي. لم تنسَ ذلك اليوم ولكن عقلها الباطن يرفض مسألة موته في جبهة القتال وضياع جثته بين الوديان. ولتبقى تنتظر من لا يعود.

كان الجميع يحترمون رغبتها في الانعزال والصمت الذي ينهش عزلتها.. وحنينها الجارف لأبنائها الثلاثة الذين ربتهم بدور الأم والأب. لقد انشغلوا عنها تماما. لم يزرها أحدهم منذ أمد بعيد وكل ما تبقى منهم ورقة معلقة فوق جدار سريرها: اتصلي بنا عند الضرورة.

اثنتان كن يشاطرنها سكن غرفتها في دار المسنين

كانت احداهن مولعة بمتابعة المسلسلات من خلال جهاز التلفاز في قاعة الدار.وكانت تتفاعل بشدة مع احداث القصص وتذرف دموعها من اجل البطل أو البطلة.. لذا يكون تواجدها نادرا.

اما السيدة الثانية فكانت تشغل جلّ وقتها بقراءة الكف لبقية النزيلات وهي شديدة التعلق بهذه الهواية. لكنها ثرثارة قليلا

سألتها ذات مساء لماذا لم تتزوجي بعده.. ؟؟ تضحك الست وداد بهدوء وهي تقول: انا متزوجة من الانتظار.. وفاء لزوجي فربما يعود لي ذات يوم.

اذن وماذا تكتبين ولمن.. ؟؟

أخذت الست وداد شهيقا طويلا ثم الزفير بعده وببطء ايضا.

ثم قالت: أكتب له.. ربما يقرأه ان عاد ويشعر انني كنت هنا وكنت اتذكره ولن انساه يوما واني بقيت أحبه رغم كل هذا الغياب. انه لا يكذب حين قال لي انتظريني..

كانت الأيام في دار المسنين تمر ببطء ولوعة. والوقت لا يقاس هناك بالساعات والأيام بل بعدد مرات شهيقها وزفيرها وبعدد زيارات ابناءها التي لم تتحقق أبدا.

وذات ليلة تموزية شديدة الحرارة شعرت الست وداد بدوار شديد مع ارتفاع درجة حرارة جسدها وعدم تقبلها لوجبة العشاء وكذلك لوجبة فطورها الصباحي في اليوم التالي. وهذه الحالة لا تشبه نشاطها اليومي المعتاد، نقلت على أثرها للمشفى.

طلب منها الطبيب ان لا تغادر المشفى تحسبا لأي عارض.

ولكن في اليوم الثاني ازدادت حالتها سوء وأخذت تهذي مع ارتفاع شديد بدرجة حرارة جسدها.وقبل ان تغمض عينيها طلبت من الممرضة ان تحتفظ بدفترها وتعطيه لولدها البكر ان حضر.

اتصلت مسؤولة الدار على رقم ولدها البكر. وقد تأخر كثيرا في الحضور للمشفى لكنه جاء أخيرا ليستلم جثتها مسجاة داخل ثلاجة المشفى.

بقي المقعد الخشبي خاليا في دار المسنين والدفتر بين يدي ولدها البكر والياسمين مازال يتساقط بصمت فوق شاهدة قبرها كأنه يعرف تماما ان هنا يرقد قلب أحب بصمت ورحل بصمت.

تنقل ولدها البكر بين صفحات الدفتر ليجد رسائلها الموجهة له ولأخويه. كتبتها بحنان الأم ولوعة المشتاق.

.. أثارت شجونه هذه العبارة في أول ورقة بالدفتر وأول سطر فيها أولادي: سامحوني ان أثقلت عليكم في طفولتكم فقد كنت أما وحيدة ومرتبكة ومسؤوليتكم كانت ثقيلة فوق أكتافي.. ربما كنتم تكرهون عصبيتي أحيانا. لكنني أحبكم يا أغلى الناس.

تساقطت دموعه فوق السطور.. لكنها تساقطت في الوقت الخطأ

***

قصة قصيرة: سنية عبد عون رشو

1 / 6 / 2025

 

في نصوص اليوم