نصوص أدبية

مروان الدليمي: أَرْواح لَم تَعد تحتاج أَوْراقا رسمِيَّة

في المساء،

تتثاءب المصابيح مثل قطط جائعة،

وتسأل الورقة البيضاء:

من سيكتب أسماء الغائبين؟

الحِبر يذوب في كأس الماء،

يتحوّل إلى دمعةٍ بلا ملامح،

تجري على الطاولة

وتترك أثراً من الملح.

*

في الممرّ،

الأحذية تصطف مثل شهداء صغار،

تنتظر أن ينهض أصحابها

ليذهبوا إلى المدرسة،

لكن الساعة معلقة على الجدار

تصرّ على تكرار لحظةٍ لا أحد فيها.

*

الريح التي مرّت على غزة

لم تترك سوى كومة من المفاتيح

تلمع في العتمة،

كما لو أن البيوت

انكمشت فجأة إلى جيوب غريبة.

المفاتيح تتناوب في الهمس:

"أين الأبواب؟"

لكن الجدران ذابت مثل خبزٍ في ماء.

*

أنا لا أرى موتاً،

بل غياباً يتكاثر مثل الظل،

يغطي الكراسي،

الأطباق،

الصور.

حتى السرير صار شجرة يابسة

تخفي جذورها في تراب بارد،

وتترك للريح

أن تعلّق الغطاء على غصنها الوحيد.

*

الخبر في الصحيفة

يشبه سكيناً بلا قبضة،

يطير فوق الطاولة

ويقطع صمت المطبخ إلى نصفين.

الخبز لا يُؤكل،

يُترك ليشيخ في السلة،

كما لو أنه يعرف أن الأفواه

لن تعود.

*

العائلة برمتها

لم تُمحَ من السجل المدني فحسب،

بل من المِرآة أيضاً،

من رائحة القهوة،

من الزيت  ،

من الزعتر ،

من صدى الخطوات في الفجر.

كأنهم لم يولدوا أبداً،

كأن اللغة نفسَها

تراجعت خطوةً إلى الوراء،

وتخلّت عن أسمائهم.

*

أنا أكتب

لأُبقي ظلهم حيّاً على الجدار.

أكتب لأمنح الكرسي دماً جديداً،

وللأرض قلباً ينبض تحت الركام.

لكن الكلمات تتناثر،

تبحث عن أجسادٍ تسكنها،

فتنام على السطر

كما تنام الطيور المهاجرة

على أسلاك كهرباء ميتة.

2

في زاوية الغرفة

ما زالت حقيبة المدرسة مفتوحة،

تخرج منها رائحة طباشير،

وممحاة صغيرة

تتذكر أصابع الطفلة التي كانت تمسح

الخطأ بحذرٍ،

كما لو أنها تمحو الغبار عن قمرٍ هشّ.

*

الملاعق في المطبخ

تحاور الصمت.

كل واحدةٍ تنعكس فيها صورة وجهٍ غائب،

وجوهٌ تتقاطع ثم تختفي،

كأن الملاعق مرايا صغيرة

ابتلعتها النار.

*

في الخارج،

الأشجار لم تعد تهتز بالريح،

بل بأسماء مجهولة

تتدلّى من أغصانها مثل ثمار يابسة.

الطيور تحاول نطقها،

لكن أصواتها تتكسر

وتسقط مثل زجاجٍ قديم.

*

الليل يقترب

وفي جيبه خريطةٌ سوداء،

كل خطٍّ عليها نهرٌ بلا ماء،

كل نقطةٍ مدينةٌ مطفأة.

حتى النجوم لا تضيء،

بل تحترق ببطء

كما لو أنها تكتب وصيةً أخيرة

على جلد السماء.

*

الخبر الذي عبر شاشة التلفاز

كان يمشي على قدمين،

يدخل البيوت

ويجلس على الكراسي الخالية.

صوته يشبه حذاءً عسكرياً

يدوس زهرةً نائمة.

وكلما أعاد المذيع الجملة،

كان الجدار يتشقّق أكثر،

حتى صار جداراً بلا بيت.

*

أحاول أن أضع اسماً على الصفحة،

لكن القلم يرفض.

أحاول أن أكتب "أمي"،

فتنطفئ الحروف.

أكتب "أخي"،

فتتحول الكلمة إلى غبار.

كأن اللغة نفسها

أدركت أن ما انمحى من السجل المدني

انمحى من حروفها أيضاً.

*

في النهاية،

يبقى فقط كرسيٌ مكسور،

مزهرية بلا ماء،

وبابٌ مغلق

يُفتح ويُغلق وحده،

كما لو أن العائلة برمتها عادت في هيئة هواء،

تطرق المكان ولا تدخل.

3

الزمن يجلس على الكرسي الوحيد

ويعدّ الساعات بأصابع من غبار.

يضع أمامه ساعةً ميتة،

ويبتسم وهو يراقب عقربها

يُصرّان على الدوران في الفراغ.

في دفاتر الأحوال المدنية

الأسماء ليست إلا ظلالاً،

تتحرك مثل سمكٍ بلا ماء،

تفتح أفواهها بصمت

كأنها تطلب هواءً آخر

غير هذا الهواء المشبع بالحديد.

*

أسمع المدينة تتنفس لكنها تتنفس بصعوبة،

كأن رئتيها مليئتان بالرماد.

كل حجرٍ فيها ينادي بحرفٍ ناقص،

وكل شارعٍ يردد سؤالاً لا جواب له:

من يكتب العائلة من جديد؟ .

*

أمسكت بمرآة صغيرة،

رأيت وجهاً لا أعرفه.

ربما هو وجهي،

وربما وجه رجلٍ آخر فقد اسمه.

*

في الحروب،

تصبح الملامح مرايا متشظية،

وكل عابرٍ يحمل أكثر من وجه،

أو لا يحمل وجهاً أبداً.

*

الغياب ليس موتاً،

إنه سماء بلا نجوم،

بيتٌ بلا جدارٍ يقيه من الريح.

الغياب يضع يده على كتفي

ويقول:

"أنا أخوك الجديد،لن تفلت مني."

*

أصغي إلى خطواتٍ لم تعد موجودة.

ربما هي خطوات الذاكرة،

تعود إلى البيت كل مساء لتشعل المصباح

ثم تختفي.

وربما هي فقط أوهام تتجول في الممرات،

تطرق الباب ولا تنتظر جواباً.

*

في النهاية،

أكتشف أن العائلة تسكنني الآن،

كصوتٍ يتردّد بين أضلعي،

كرائحة خبزٍ قديمٍ لا تزال معلقة في الهواء.

السجل المدني أوراقٌ يمكن تمزيقها،

لكن الذاكرة

مدينة لا تسقط أبداً،

مهما اشتد القصف.

4

السماء تميل برأسها كما تفعل أمّ متعبة،

تبحث في الغيوم عن أسماءٍ ضاعت،

لكن المطر ينزل بلا حروف،

مجرّد ماءٍ يطرق الأرض كأنه يكتب بالسرّ

رسالةً لا أحد يفكّ شفرتها.

*

الأرض تستيقظ من نومها الثقيل،

تفتح عينيها على حفرٍ سوداء،

وتسأل:

أين أبنائي؟

ثم تصمت،

تسمح للأشجار أن تتحدث مكانها،

لكن الأشجار مشغولة بحمل جثثٍ من الضوء

على أغصانها اليابسة.

*

القمر فوق غزة لا يضيء،

بل يتدلّى مثل مصباحٍ مكسور

في سقف غرفةٍ خالية.

*

العائلة في غيابها،

تحوّلت إلى مجرّةٍ صغيرة تسبح في داخلي.

كل نجمٍ فيها اسم،

كل مدارٍ خطوة،

كل شهابٍ ذكرى.

أرفع يدي

فأشعر أنني ألمَسُهُمْ،

لكن أصابعي تعود فارغة،

كما لو أن الكون نفسه

يرفض أن يعيد ما أخذه.

*

الحرب ليست سوى حيوانٍ جائع،

يفتح فمه على مدنٍ كاملة ويبتلعها دفعةً واحدة.

ثم يجلس لاهثاً،

يمضغ الأسماء ببطء،

ويترك عظامها تتناثر في نشرات الأخبار.

*

أغمض عينيّ،

أرى القافلة تمشي في الصحراء،

كل جملٍ يحمل بيتاً،

كل خيمةٍ تحمل قلباً.

لكن الريح تغيّر الطريق،

فتتحول القافلة إلى غبارٍ

يتوزع على الجهات الأربع.

أفتح عينيّ،

فلا أجد سوى شاشةٍ صغيرة

تكرر العبارة ذاتها:

"العائلة برمتها مسحت من السجل المدني."

*

أعرف الآن أن الغياب لغةٌ أخرى للوجود.

الأرض تكتب بها رسائلها،

السماء تعيد صياغتها،

والإنسان يقرأها بصمتٍ في قلبه المرتجف.

كل عائلةٍ تُمحى من السجل

تصبح قصيدةً مخفية في كتابٍ كوني،

لا يقرؤه أحد

إلا الأرواح التي لم تعد تحتاج إلى أوراق رسمية.

5

الزمن لا يقف، بل يتعثر مثل شيخٍ ضرير،

يمد عصاه على الطرقات ولا يجد مَن يعيده إلى بيته.

كل ثانيةٍ تمرّ تترك وراءها حجراً بارداً

على قبرٍ لم يُكتب عليه اسم.

*

الذاكرة،

هي الأخرى،

تتحوّل إلى طائرٍ بلا عش،

تحطّ على غصنٍ مكسور،

ثم تطير فجأة

لتختفي في فضاءٍ لا يملك حدوداً.

أحياناً تعود

في صورة رائحة خبز،

أو ضحكة طفلٍ لم يكتمل،

لكنها سرعان ما تتبخر،

كأنها لم تكن سوى خدعةٍ صغيرة

من يد الغياب.

*

أفتح السجل القديم،

لا أجد إلا فراغاً منظّماً،

سطوراً مرتبة بعناية لكن بلا أسماء.

أكاد أسمع الورق يتنهّد،

يقول لي:

"أنا أيضاً يتيم، أحتاج إلى حروفٍ تعانقني."

*

أجلس أمام النافذة،

أراقب الغروب يذوب في البحر.

الشمس تبدو مثل جرحٍ ذهبي يحاول أن يلتئم ببطء.

أفكر:

هل للغياب لون؟

ربما هو هذا اللون البرتقالي

الذي يتردد بين الاحتراق والانطفاء.

*

الليل يقترب،

وفي جيبه مفاتيح بلا أبواب.

الليل يعرف أنني وحيد،

فيترك لي واحدة منها،

كإشارةٍ غامضة

أن الأبواب التي سقطت

يمكن أن تُفتح من جديد،

لكن ليس هنا،

ولا الآن.

*

في الصمت،

أسمع همساً عميقاً،

ليس من الأرض ولا من السماء،

بل من قلب الزمن نفسه.

يقول:

"كل ما يُمحى من دفاتركم

ينقش على جدارٍ آخر،

جدارٍ لا تراه العيون،

لكن الأرواح تحفظه."

*

هكذا،

أدرك أن العائلة لم تُمحَ،

بل عادت إلى صيغةٍ أخرى:

موجة تمشي في البحر،

ريح تمرّ بين النوافذ،

ظلّ يرافقني وأنا أعبر الشارع.

العائلة لا تُسجَّل في الأوراق،

بل في هذا الارتجاف العميق

الذي يسكن صدري

كلما تذكرت.

***

مروان ياسين الدليمي

في نصوص اليوم