ترجمات أدبية
أولجا مارك: الولاعة

قصة: أولجا مارك
ترجمها الى العربية: د. محمد عبد الحليم غنيم
ترجمتها عن الروسية: شيلي فيرويذر-فيجا
***
"أيها الناس الطيبون، اشفقوا على يتيمة مسكينة!"
صدح صوت الفتاة في أرجاء الحافلة وضرب على النوافذ، وكأنه يريد أن يفرّ من الهواء الخانق ويهرب إلى الخارج.
عندما اقتحم هذا الصوت فجأة روتينهم المزدحم بما فيه الكفاية قبل العطلة، انتفض الركاب. حدّق بها البعض بانزعاج، هذه القامة الصغيرة الملفوفة بمعطف دافئ لا يبدو سيئاً للغاية، لكن معظمهم كان لديه رد فعل إيجابي بما يكفي تجاه كل من الصوت وصاحبته، وسقطت الأوراق النقدية المجعّدة بسخاء في راحة يدها النحيلة.
كانت فيركا سعيدة. ابتسمت لكل من أعطاها مالاً، فهي تعلم أن وجهها الصغير الجميل سيُحرك مشاعر الناس ويدفعهم للعطف، ويزيد من حجم تبرعاتهم.
- أين والداكِ؟
سألتها امرأة في منتصف العمر بقلق.
أجابت فيركا بمرح:
- نحن لاجئون. من الشيشان.
ثم أضافت، تحسّبًا لأي شيء:
- هناك حربٌ هناك.
هزّت المرأة رأسها بأسف، بينما اتجهت فيركا نحو المخرج. لقد جُمعت النقود، وحان الوقت للرحيل.
تمتمت فيركا بشيء وهي تقفز أثناء سيرها، مليئةً بالبهجة، سارت بين المباني السكنية الجديدة الشاهقة في أرقى جزء من المدينة. كان العمل لكسب العيش هنا خطيرًا، لكثرة رجال الشرطة والمواطنين اليقظين، لكن فيركا كانت تحب المخاطرة. توقفت بالقرب من أحد المداخل، فحصته عن كثب، ثم تجاوزته وانتقلت إلى المدخل التالي. دخلت من ذلك الباب وانتظرت. ولإضافة المزيد من المتعة، أخرجت فيركا شطيرة نقانق (هوت دوج) نصف مأكولة من جيبها. قضمت منها لقيمات صغيرة، دون استعجال — فبطنها كانت ممتلئة — ومثل ممثلة قبل دخولها المسرح، استعرضت حوارها. بعد حوالي عشر دقائق، دخل رجل من الباب. أمسكت فيركا ما تبقى من شطيرة النقانق بيد واحدة، وأسرعت لمقابلته.
- تريد لوليتا، حوريّة صغيرة، فتاة يافعة؟
ترنمت فيركا بالكلمات، ثم فتحت معطفها، وبسرعة الخفّاش سدّت الطريق إلى الدرج. لم تكن ترتدي شيئًا غير ذلك المعطف. برز نهداها الصغيران المدبّبان بصورة لافتة، وانقبضت حلماتها الداكنتان - ربما من البرد، وربما من الإثارة. بطن مشدود ، ومثلّث أشقر منتفخ في الأسفل، وفخذان قويّان وركبتان زَاوِيَّتَان لكائن بين الطفولة والأنوثة... ارتعد الرجل وتراجع خطوة إلى الوراء، بعيدًا عن وهج الجسد العاري اليافع. اندفعت فيركا نحوه. انطلق همسها عاليًا، تارة متوسّلًا، وتارة آمِرًا، سريعًا، متلاحقًا، يتردّد مرارًا وتكرارًا.
- اشفق على يتيمة مسكينة يا عم! أنا فتاة جميلة، فتاة طيبة، لم ترَ في حياتك مثلها، ولن تجد أبدًا مثلها...
كان الرجل يتراجع نحو المخرج، لكنه تقدم فجأة، أمسك بـ "فيركا" من كتفها، ودفعها خارج الباب.
- أيتها الوغدة الصغيرة!
طارت فيركا إلى الخارج وسقطت، وكادت أن تُسقط معها امرأة كانت على وشك أن تدخل. توقفت المرأة، وهي في حالة من الاضطراب، تحدق في فيركا العارية الممددة على معطفها.
- اغتصبني!
صاحت فيركا، وأضافت هي تتحدث بوضوح شديد وتحدق مباشرة في المرأة.
- أخذ ملابسي! أنا، اليتيمة!
وبدت في صورة يائسة، غطت وجهها بيديها.
ركض الرجل إلى الخارج، وألقت فيركا نظرة على وجه المرأة المصدوم، وصرخت: "النجدة!" ثم قفزت وركضت بين المباني.
توقفت فيركا لالتقاط أنفاسها بعد بضعة شوارع. كانت تهتز من الضحك، وقضت وقتًا طويلًا تستريح قرب إحدى الشجيرات الصغيرة التي زرعت قبل عامين. أخرجت فيركا زجاجة الفودكا التذكارية من جيبها، تلك التي أعجبت بها لجمالها وصغر حجمها واشترتها في صباح ذلك اليوم من كشك محطة الحافلات. فتحتها وأخذت رشفة. ثم واصلت السير نحو مبنى آخر، وهي ترقص في طريقها، دون أي استعجال، متظاهرة بأنها المغنية "لايما فايكوليه" على شاشة التلفزيون. كانت أبواب المباني هنا مزودة بأقفال تعمل بلوحات مفاتيح. انتظرت حتى دخل طفل، فدخلت خلفه، ووقفت تنتظر مرة أخرى.
ظهر رجل على الفور تقريبًا. وفتحت فيركا معطفها، واتجهت نحوه.
- هل تريد لوليتا، حورية، فتاة يافعة؟
توقف الرجل، وأخذ يتفحصها ببطء من أعلى إلى أسفل.
- كم عمركِ؟
- إحدى عشرة!
قالتها فيركا بابتهاج.
قال الرجل:
- أنتِ تكذبين.
تراجعت فيركا:
- أربعة عشر.
وتابعت بثقة:
- لا أتذكر، يا عم. نحن لاجئون من طاجيكستان. هناك حرب هناك.
- من أين تعلمتِ الكلام بهذا الشكل إذن، يا لوليتا من طاجيكستان؟
قالت فيركا وهي تقترب أكثر من الرجل:
- أنا ذكية جدًا. أقرأ الكتب، وأشاهد الأفلام، وأعزف على الجيتار. لم تحلم أبدًا بفتاة مثلي.
فحصها الرجل مرة أخرى عن كثب، مذكّرًا إياها بالطبيب في الفحص الطبي.
قال الرجل:
- حسنًا، لنذهب إلى منزلي.
- لا، يا عم، لست غبية. هنا، من فضلك. لن أذهب إلى منزلك.
تردد الرجل لثانية، ثم أمسك بـ "فيركا" وجرّها إلى السلالم حتى الدور الأول، حيث كان هناك تجويف صغير في الحائط.
توسّلت فيركا:
- يا عمي! أنا مجرد يتيمة. ماذا عن بعض المال؟
سألها الرجل:
- "كم تحتاجين؟ هل ما يكفي للآيس كريم؟
- ألف.
أخرج الرجل بعض المال، وألقت فيركا نظرة خاطفة على محفظته، ودسّه في يدها. تحسّس ملابسه الشتوية وأمضى خمس دقائق وهو يحاول إيجاد وضع مريح.
انتظرت فيركا بصبر، وقد كسبت المال الذي حصلت عليه بنفس الصبر والبرود، وهي تحدق بلا مبالاة من نافذة الدرج الضبابية. تحسّست في جيوبها بقية النقانق وبدأت في مضغها. قال الرجل:
- على الأقل كان يمكنكِ تؤجلي الأكل.
أجابت فيركا بحدة:
- لا أهدر الطعام.
سأل الرجل، بينما كانت فيركا تُزرّر معطفها في غير عجلة.
- الآن إلى أين ستذهبين؟
نزلت فيركا درجتين للأسفل وتوقفت لتصلح شعرها.
- لن أذهب إلى أي مكان حتى تدفع لي، يا عمي.
- ماذا تقصدين، حتى أدفع لكِ؟
استشاط الرجل غضبا.
- لقد أعطيتكِ ألفًا!
قالت فيركا في برود:
- ألف من عملتنا ،لقد قصدت ألف دولار.
شتم الرجل ولعن. تجمدت فيركا لثانية، ثم قلبت عينيها بطريقة مسرحية، ورفعت ذراعيها، وصرخت ليسمعها المبنى بأكمله.
- النجدة. النجدة. طفلة تتعرض للاغتصاب.
انقض الرجل عليها، لكن فيركا كانت مستعدة لذلك ؛ تملصت منه ، وركضت صاعدة على الدرج، وهي تدق بعنف على كل أبواب الشقق فى طريقها. صرخ الرجل عليها من الخلف.
- توقفي! اهدئي!
استدارت فيركا وهمست له:
- أعطني أجرتي، يا مغتصب الأطفال، وإلا سأذهب إلى الشرطة وتنتهي القصة!
في مكان ما، انْصَفَق بابٌ، وسُمِعت أصوات فى مكان آخر. شحب وجه الرجل، أخرج محفظته، وأخذ منها ثلاثمائة دولار، وألقى بها نحو فيركا. نظرة واحدة سريعة على المحفظة أخبرتها أنه لم يتبقَ شيء في داخلها، لذا التقطت فيركا المال، وأغلقت معطفها بإحكام، وركضت إلى الطابق السفلي، مرورًا بكل الأصوات القلقة التي تقول: "ماذا حدث؟" و"من الذي صرخ؟"
وحين ابتعدت بما يكفي، في قطعة أرض خالية قرب المكان الذي كانوا يبنون فيه برجًا آخر، قفزت فيركا عاليًا في الهواء، وأخذت تؤدي رقصة النصر لقبيلة مجهولة. أنهت زجاجة الفودكا وتوجهت إلى متجر "رامستور" لتحول الأوراق الخضراء عديمة الفائدة إلى أشياء جيدة تحتاجها.
غطت أجواء المساء الشتوي الباكر المدينة بوشاح قاتم. كان ضباب فترة ما بعد الظهيرة قد استقر كغيوم سامة تملأ الشوارع. أما فيركا فكانت تمشي ببطء، منحنية تحت وطأة عدة أكياس تسوق ممتلئة، وعليها صورة وحش أخضر فضائي، تشق طريقها ببطء مرورًا بحاجز خرساني طويل يحيط بموقع بناء مهجور منذ عشر سنوات. في الماضي، كانوا يخططون لبناء متجر كبير هنا، الأكبر في المدينة، حتى أنهم تمكنوا من وضع أساس متين وبناء الطوابق الأربعة الأولى.
لكن الأزمنة تغيرت، ولم يعد هناك ما يكفي من المال، فامتلأت الأرض أولاً بالأعشاب الضارة، ثم بالشتلات الصغيرة. الآن، تنتشر المتاجر الكبيرة في جميع أنحاء المدينة في مبانٍ جاهزة مستوردة. إنها تنمو أمام عينيك كأنها بيوت من ورق. لم يعد أحد يهتم بمشروع سوفيتي عملاق قديم. كانت فيركا تمشي، ولتشتيت انتباهها عن ذراعيها المؤلمتين اللتين بالكاد تحملان الحمل الثقيل، كانت تكرر الكلمات الجديدة التي قرأتها لأول مرة اليوم في المتجر، في الإعلانات وعلى المنتجات، على أغلفة الكتب وأشرطة الكاسيت: "آي-بيم"، "خدمات استشارية"، "قروض عقارية". أحبت هذه المجموعات الغامضة من الأصوات، التي يمكنها تكرارها وتذوقها حتى يصبح ما سمعته أو رأته أو قرأته فجأة واضحًا ومفهومًا... كان الناس يضحكون على هوسها الغريب، وهذا جعل المتعة شبه المحرمة أكثر حدة.
عندما وصلت إلى فتحة في الجدار الخرساني، مرّرت فيركا الأكياس أولاً، ثم زحفت هي بنفسها. اتبعت المسار المطروق جيدًا المؤدي إلى المبنى غير المكتمل وطرقت على نافذة القبو. لم يكن لأي من الطوابق العلوية جدران، بل مجرد هياكل وسقف بالكاد، لكن القبو والأقبية السفلية كانت مكتملة. كل ما احتاجوه هو وضع بعض الخشب الرقائقي في فتحات النوافذ والفتحات الهوائية ليصبح المكان جاهزًا.
انزلق مصراع من الورق المقوّى بسرعة، وظهر في النافذة رأس صبي أشعث يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا.
- فيركا! تعالي. هل أنتِ بردانة؟
- خذ !
في فخر، ناولته فيركا أكياس التسوق واحدة تلو الأخرى. أطلق الشاب صيحات إعجاب وسرور وهو يأخذ كل كيس، محاولًا معرفة ما بداخله، بينا فيركا تضحك.
عندما انتهت من تمرير كل الأكياس، انزلقت فيركا بنفسها عبر النافذة. أمسكها الشاب وساعدها على النزول، ثم سارع لتغطية النافذة. أحضرا الأكياس إلى الغرفة المجاورة، حيث كان الجو دافئًا بفضل موقد من الحديد الزهر، وكانت المكان يعج بالضجيج. كان من الواضح أن خمسة مراهقين صغارًا يعيشون هناك منذ فترة. كانت البطانيات مفروشة في الزوايا، والأطباق موضوعة على طاولات منزلية الصنع مجمعة من صناديق، ونافذة مظلمة مغطاة بألواح خشبية كانت مزينة بستارة.
استُقبِلت فيركا بصرخات الفرح، وعندما بدأت في عرض الأشياء التي اشترتها منتصرةً، تحول الفرح إلى ابتهاج عارم. صفّقوا لعصي النقانق المنحنية قليلاً، وأقراص الجبن الهولندي، ولفائف الجبن المدخن، والبقلاوة، والمعجنات، والأطعمة المعلبة، وزجاجات الفودكا والبيبسي، والحلوى، والشوكولاتة، والنعناع، وغيرها من الكنوز.
- كيف حملتِ كل ذلك؟
سألتها الفتاة القوية ذات العظام البارزة التي كانت دائمًا تشهق بأنفها. لكن فيركا كانت قد استعادت أنفاسها ورفضت السؤال بابتسامة:
- لا شيء يذكر.
وحين شبع الجميع وأخذوا نصيبهم من الشراب، وأخذوا يسترخون من غفوة الامتلاء القصيرة، يدخنون بنشوة، وكان الوقت كله مرحًا، بدأت فيركا تدور في وسط الغرفة، وتروي لهم أحداث يومها. أدّت كل الأدوار، وقلّدت أصوات الرجال ووجوه النساء المذعورة، وحكت كيف أنها ــ هي، فيركا ــ قامت بكل ذلك بمهارة وسلاسة.
كان الجميع يضحكون، يقلّدون كلماتها وإيماءاتها، وبينما كانت تستمتع بحبهم وإعجابهم، شعرت فيركا بالسعادة.
فجأة، قالت الفتاة القوية:
- لقد صار الجو بارداً بعد الظهر. هل نذهب لنقضي الليلة في دار الأيتام؟
قال الفتى ذو الشعر الأشعث، وهو ينظر إلى بقايا وليمتهم الشحيحة:
- لا. لنذهب غداً.
هتفت فيركا:
-غداً، غداً!
لم يكونوا يذهبون إلى دار الأيتام إلا عندما تسوء الأمور حقاً في الشوارع، أو عندما يحتاجون إلى الاختباء والانتظار حتى تمر بعض المتاعب. وقد توقف المشرفون منذ زمن طويل عن الاهتمام باختفاء الأطفال الأكبر سناً المتكرر. كانوا يغيبون في كثير من الأحيان لأيام متواصلة في الصيف، وأحياناً في الشتاء أيضاً.
قالت فيركا:
- لقد اشتريت هذا أيضًا.
وأخرجت من جيبها ولاعة.
سألها أحدهم، وهو يلقي نظرة غير مهتمة على ما اشترته:
- وماذا في ذلك؟ إنها مجرد ولاّعة.
- إنها أبدية. تدوم إلى الأبد.
رفعت فيركا بفخر المستطيل الأحمر الصغير ذو الزوايا المستديرة فوق رأسها.
ضحك الفتى ذو البشرة الداكنة الذي يشبه الغجري وقال:
- لا شيء يدوم إلى الأبد.
هتفت فيركا:
- لكن هذه تدوم، هذه تدوم!
ومررت إصبعها بحب على سطحها الأملس.
- لقد قالوا لي إنها كذلك!
همست الفتاة التي كانت تجلس دائماً بهدوء في الزاوية، وهي أصغرهم جميعاً:
- أنت محظوظة جداً. لديكِ دائماً مال وتعرفين الكثير من الكلمات الكبيرة الفخمة.
صاحت فيركا:
- هكذا أنا!
دارت في جميع أنحاء الغرفة، بيد تحمل الولاّعة وبالأخرى تحمل زجاجة فودكا مفتوحة، وكانت سعيدة، فالغرفة الدافئة كانت مريحة، ولهبها الصغير كان يرفرف ثم ينطفئ، والأطفال من حولها كانوا يستعدون للنوم، لكنها أرادت الذهاب إلى مكان ما، فعل شيء ما، لا يهم أين أو ماذا، طالما أن هذه السعادة المترنِّحة يمكن أن تستمر.
صاحت عليهم:
- هيا بنا نصعد إلى الطابق العلوي! لننظر إلى المدينة! إنها ليلة فريدة، سيكون الأمر رائعاً!
قال لها الفتى ذو الشعر الأشعث، وهو يدخل تحت بطانية مع إحدى الفتيات:
- أنتِ ثملة تماماً! الجو بارد هناك. سنتجمّد.
لكن فيركا كانت بالفعل تصعد الدرج المتهالك. فتحت الباب في الأعلى ثم صعدت، و صعدت، وصعدت، حتى وصلت إلى الطابق الأخيرانقضّ عليها الهواء البارد الحاد فأطلقت شهقة من السعادة، وشدّت معطفها بإحكام حول جسدها.
سارت فيركا إلى الحافة تماماً. كانت المدينة تومض لها بعشرات النوافذ المضيئة، وأضواء الأعياد في الشوارع، والومضات الملونة للإعلانات. كان الجو بارداً. في الليل، تنسى الطبيعة أن هذه المدينة جنوبية. أخذت فيركا رشفة سريعة من الفودكا. أشعلت ولاّعتها بشكل ميكانيكي، وكأنها تضيف شعلة صغيرة أخرى إلى الليل المتلألئ، ونظرت بعيداً. بالنسبة لها، كان المنظر من الأعلى دائماً آسراً. نظرت لفترة طويلة إلى المدينة الممتدة في كل الاتجاهات، ثم، وهي متجمدة، بدأت في الرقص. وسرعان ما كانت تضحك وتصرخ وتدور في دوائر، ورأسها ملقى إلى الخلف وذراعيها ممدودتان على اتساعهما. عندما توقفت وعادت لتنظر إلى المدينة، بدا لها أن الأضواء في النوافذ تُسحب، وتدور بلا حدود، في الظلام اللامحدود للفضاء. كان كل شيء يسبح: أضواء السيارات الأمامية، البيوت، الشوارع... كان الكوكب الضال يطير نحو المجهول، يسحب خلفه فص القمر الرشيق، والشمس أينما كانت مختبئة، والنجوم الشتوية الهشة. بالكاد تمسك نفسها، وبأقصى سرعة، صرخت فيركا على الأضواء التي تحولت إلى خطوط رفيعة ومشرقة:
"أيها الناس الطيبون، اشفقوا على يتيمة مسكينة!"
(انتهت)
***
.........................
* أولجا مارك / Olga Mark (1963-2008) كانت معلمة وناقدة وكاتبة قصص. نشرت ثلاثة أعمال روائية وديوانا من الشعر. كانت أولجا تكتب باللغة الروسية.
* شيلي فيرويذر-فيجا/ Shelley Fairweather-Vega مترجمة محترفة من اللغتين الروسية والأوزبكية، وقد ترجمت أعمالاً أدبية من جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي السابق. تحمل شهادات في العلاقات الدولية من جامعة جونز هوبكنز وفي الدراسات الروسية وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى من جامعة واشنطن. تشغل حالياً منصب رئيس جمعية المترجمين والفوريين في الشمال الغربي، وتدير خدمات المكتبة الروسية التابعة لـ FairVega. شاركت في تحرير العمل قيد الإنجاز "أمانات: كتابات نسائية حديثة من كازاخستان" مع زاوري باتاييفا.