نصوص أدبية

عبد العزيز قريش: ظلال الصمت

مهداة "للذي يشبه الإنسان ولا يشبهني"

كنت احتسي قهوة المساء في شرفة شقتي القابعة في الطابق الرابع من عمارة " نور الهدى"؛ اسم خلد به المنعش العقاري ابنته الصغيرة الغالية عليه حد الهوس. وهو اسم محفظ بموجب القانون، لا يملك أحد نزعه عن هذه العمارة التي بدت عليها بعض الشقوق، لأن العادة جرت على طمس الجودة بمساحين الوجه. أجلس على أريكة هزاز أقرأ رواية "الكلام والصمت" التي لا تناسب عقلي ولا وجداني، لأنها كتخاريف شيوخ عصري، ولا تتماشى مع طموحاتي ولا تستجيب لتأملاتي وطموحاتي، فارغة من كل معنى، أوراقها تتراكم حبات رمل ساعة تروي ما كان وما لم يكن، أو، إن شئت، ما سيكون من علامات استفهام، وملامح حيرة في إمساك المعنى. بينما تغوص مقلتاي في مياه تلك الصفحات الذابلة المتعفنة، راودني غبش سبات، أسكن رموش عيني حيث وجدت نفسي:

أمشي الآن في دهاليز نفسي ومسارب روحي، وأقبية أعماق دواخلي أتعثر بظلي الذي لا يفارقني كاسمي وهويتي، أتهجّى أسماءً رحلت عني ومعجم لساني، وأحاديث لم تكتمل بعد أو لم تبدأ بعد بيني وبين وجودي. كل شيء حولي صارخ بالدلالة وعمق إشاراتها: الحياة لا تحتمل الطيبين والطاهرين والشرفاء، ولا تتسع للمفكرين والنقاد والمبدعين؛ حيث التفاهة والسخافة والسذاجة رائدة زماني. والصمت يبقى الملاذ الأخير لي ولمن رفض أن يتحول، في سياق التخلف والتردي الإنساني، إلى ذئب أو ثعلب أو أسد؛ أي لمن رفض أن يكون رمز الهيمنة والافتراس والتوحش والتغول أو يتحول إلى أكياس رمل في نادي الأسياد.

هل أنا شيخ حقًا؟ أم مجرد بقايا صرخة، أنين، أو احتجاج في زمن بلا آذان، زمن صنعه الجهل والفقر والعته؟ سؤال حارق يلاحقني كظلي، يمشي حيث أمشي، وربما يسبقني، وفي فمي صمت يثقل الكلمات، يحوّل المعاني إلى حروف بلا دلالة أو قوة أو قاموس.

أجلس أمام المرآة التي لم تعد تعكس سوى أشباحي وذكرياتي المحزنة. أبحث في التجاعيد التي حفرها إزميل الحياة على خريطة طريق بلا نهاية، كنفق الفناء، فلا أجد سوى تضاريس الخيبة في أطلس الأحداث، وبقايا خطواتها نحو المجهول، وهمهمات سكون يمسح أفواه المتعبين.

كل صوت في أعماقي يوشوش لي: "اصمت… فالكلام صار لغوًا، وعلامة فارغة، لا قيمة له إلا في سوق الوهم أو في متاجر السفالة والحقارة".

سؤال يلح عليّ حين أبحث عن ذاتيتي في الوجود: من أكون أنا؟ وأما أنتَ، فمن تكون؟ حتمًا لستَ أنا، ولا أنا أنا مهما كنتَ أنا أو أنتَ. نحن أشباهٌ متفرقة، أو نظائر صُنعت من الوجود بلا وجود، نازعة منه المعنى كلما آمنّا باستغراقه لنا، أو اعتقدنا أن الوجود مختزل في وجودنا …

أغمض عينيّ، ثم أهدأ، أتنفس صمتاً أثقل من الرصاص، وصدى كلام لم ينطق بعد، همسات فكر مدفونة في بقايا كتابات هامشية، لم تجمع بعد. ويداي ترتجفان فوق الورقة التي طال انتظارها لكتابة ما، لم تعد لها علامة ولا قيمة ولا تداول. أدير وجهي عن العالم الكئيب، وأغلق الباب خلفي بشدة. آخر ما أسمع منه ليس أصواتاً فحسب، بل رموزاً تحطم كل شيء فيكون خرابا وفناء في العدم: نباح كلاب غاب أو حراسة، يعلن عن افتراس الصغار، ضحكات ثعالب تحكي قصة الخديعة المستترة والمضمرة تحت رصيف اللباقة والمجاملة، وزئير أسود يقود إلى سلطة بلا رقيب ولا حسيب، واستبداد طاغ على الوجود، طاف على سطح العسس والعسكر وعدسات عيون الرقابة … أما أنا، فقد صرت ظلّاً يتجول بين علامات الفراغ والاستفهام، وحطام الكلمات، وبقايا تقارير المخابرات.

هل سأرحل الليلة من كل حرف وكلمة لأستوطن الجنون؟ أم سأبقى هنا صنماً بلا جسد، ولا روح، ولا معنى، حتى يتحول الصمت نصا نهائيا، شهادة على انكسار كل معنى؟ وانشطار الكتابة إلى شظايا وجود؛ لا أحد يعرف الحقيقة … حتى أنا لست كائنًا. أنا سؤال يتيم، يتخبط في متاهة المجهول، معلق بخمائل السقوط.

لكن ما أعلمه الآن أني أجلس في عزلتي ووحدتي ووحشتي، أراقب الليل يزحف على نافذتي، يحارب ظلال أشيائي وموجوداتي، يعيدها إلى الغياب في انتظار الشروق. فأشعر بشيء في أعماقي يرفض الموت والفناء، ويأبى إلا أن يحيا في رواق ذاتي.

كلما حاول الصمت أن يخنقني، أن يقتلني، سمعت في عمق روحي صدى صوت باهت، خافت، لكنه ناطق: "اكتب… لا تصمت. لا تترك بياضًا على صفحات الأيام الباقية. أعد بناء الوجود بالكتابة، مهما استغرق البياض العقول، واستوطن الوجود، وارتقى في الهبوط".

أنا وحدي الذي ينطق الصمت بأسمائي التي ليست أسمائي، لكنها استعارات من أسمائي، ويحكي قصتي ودلالة أوراق دفاتري، مفكرتي التي توقفت عن كتابتها منذ خلوت بنفسي، وانطويت على ذاتي، وهجرت كياني. أبحث عن قلم قديم في درج مكتبي، أفتحه، فيسيل منه حبر لم أعرف أنه مازال حيّاً منعشا، يعيد من جديد قدرة اللغة على مقاومة الوهم والسراب، وصراع الفوضى والعبث، وإحياء الموتى، بل إحياء ما هو أبعد من الموتى. فتخط يدي ما لم يخطر لعقلي، لكنه استقر في خلدي بهدوء: لن أكون ذئبًا ولا ثعلبًا ولا أسدًا ولا وحشًا مثلهم… سأكون أنا كما أنا: شاهدًا يدوّن ما كان وما هو كائن وما سيكون، حتى آخر نفس في جسدي المتعب، المثقل بهموم بلادي".

دلالة حريتي الفردية، واستقلال كياني، وصدق هويتي، تكمن في قدرتي على الاحتفاظ بإنسانيتي وسط غابةٍ من الرموز الكثيفة، المكدسة بالافتراس والتوحش، والمخنوقة بالطغيان وصلب الحرية والصلبان.

فجأةً شعرت أني أتنفس اللغة من جديد. ليست أي لغة، بل لغتي وحدي، عنواني المقيم في ثنايا روحي، وجوهر وجودي. العالم لم يتغير كما توهمت، لكنه انكشف نصًا مفتوحًا أقرأه بعين النقد، وأهدم أصنامه التي ابتلعته. صارت الكلمة سلاحي الوحيد في وجه ما يُملى ويُتلى، بها وحدها أبقى إنسانًا حراً مستقلاً، في زمن فقد الإنسان ذاته ومعناه ودلالاته، وصار شبه إنسان بلا عنوان.

ومع ذلك، يظل السؤال الحارق عالقًا في ذهني، كعلامة استفهام تتأرجح بين كل معنى ضائع وكل فرصة للكتابة، يذكّرني بأن الكلمة وحدها قادرة على إعادة ترتيب العالم والمعنى، وعلى طرح السؤال. سؤال الكينونة والهوية الذي يلازمني كلما فتحت دفتري أو مفكرتي، وينبعث من رماد الإلحاح:

يا ترى؛ من أكون؟ ومن تكون؟

أنا أنا، وأنتَ لستَ أنا. لكن، قد تكون أنا، لأننا أشباه توائم متقاربة، صيغنا وفق هياكل وركائز واحدة، متشابهة في الوجود، مختلفة في السراب، وهم يسري فينا باسم الوجود، محاصرٌ بخطوط حمراء تسلبنا المعنى. كلما أصبحنا جذور كلمات، أو بذور استنبات، أو شتائل مهجنة.

فهل وجودنا حقًا وجود، أم مجرد مجاز؟ أم أننا استعارات من أصل واحد، مصنوعون من طينة واحدة، سقَتها تربة التربية وكتب المدارس ومراجع القراءات؟ كلٌّ منا مصنعٌ حسب الطلب، موضوع في قارورة مختبر، أو قفص منتدى، أو علامة تجارية مسجّلة لدى محاكم الوهم الكبرى. هكذا يكون سؤال الوجود؛ بل، قل: سؤال الفناء.

***

عبد العزيز قريش

فاس في: 05/09/2025

في نصوص اليوم