نصوص أدبية
عبد الله الزعبي: صدى الروح في مدينة الغياب

إهداء
إلى بغداد…
يا سرَّ الحكمة في الجراح،
ويا أثر الغياب في الوجدان،
ويا روحًا تُبعث من الرماد نورًا سرمديًا.
***
في بغداد، يتكلّم القلب وتتوارى المشاعر خلف ارتعاشة النظر. في الفراغ الممتد بين السؤال والجواب، وفي صمت عام 2003، كان الصدق هو اللغة السرية التي تحمل ما تعجز الحروف عن حمله. ومن رحم ذلك الصمت أطلت فاطمة من صالات كلية الآداب. كانت شريكة في الحروف قبل أن تكون شريكة في الحب. نسجنا وعدًا بريئًا على الورق، كأن الكلمات بيت نعلّقه فوق الخراب.
لكن البلاد كانت تمضي عكسنا. الخرائط تمحو نفسها، والخوف يقطن العناوين ويطالب بولاء الأرواح. أحببنا كما يحب من لا يضمن الغد. وربما لهذا كان حبنا أجمل ما عرفته في عنفوان شبابي. لا لأنه اكتمل، بل لأنه ظل حيًا وسط الركام، مثل طريقة المدينة نفسها في البقاء.
كان والدها من أولئك الذين رفضوا أن يعلّقوا على باب بيته الرايات، مكتفيًا بالأسفار التي رآها مرايا للثقافة وذاكرة للروح. في الأعظمية ارتفع سقف بيتهم كدعاء معلّق، وتشبّعت جدرانه بعطر الخشب العباسي. أما فاطمة، فلم تكن تسكن بغداد، بل كانت بغداد تسكنها. تمر في شوارعها كقصيدة في وعي شاعر نائم، غامضة، مألوفة، وأصيلة. وكلما نظرت إليها، تردّد داخلي صوت نزار قباني:
أين وجه في الأعظمية حلو
لو رأته تغار منه السماء؟
لكن المدينة التي أنجبتها بدأت تنكّرها. غياب قريب لها، تهديد صريح لعائلتها، وصار الاسم الذي كان يفتح الأبواب إعلانًا للموت.
في مساء رمادي، جاءت فاطمة إلى عتبة شقتي. لم تحمل حقيبة ولا تفسيرًا.
"فاطمة!" نطقت اسمها كأنني أستعيده بعد دهر.
"أحمد..." همست، وكان صوتها مثقّلًا بصمت بغداد كلّه. "لم يعد في وسعنا البقاء."
"لكن... أين ستذهبين؟" سألت، وكان الارتباك يضيق بكلماتي.
نظرت إليّ بعينيها المرتعشتين وقالت "لم يعد هناك أين يا أحمد."
ثم أضافت بمرارة "اسم عائلتي صار إعلانًا للموت."
لم تنظر إلى عيني، بل إلى ما وراءهما، إلى أرض تكتب فناؤها بيدها. قالت أخيرًا
"يجب أن أذهب... هذه الحياة هنا لم تعد لنا."
وعرفت عندها أن الباب الذي تغلقه سطوة المكان، لا يُفتح بالحب.
منذ رحيلها، غرق كل شيء في سكون مهيب. الضوء خفت حتى صار كنداء بعيد، والهواء ظل محتفظًا بأثرها. لم تكن ذكراها فصولًا تمتد، بل ومضات خاطفة، ظل ورائحة ولمسة. كنت ألملمها كما يلملم المرء شظايا مرآة عساه يرى فيها ملامح نفسه من جديد.
في صباح بارد، جلست في مقهى رضا علوان في الكرادة، ذلك المكان الذي يجمع الكتب بالشناشيل والذاكرة. الزجاج الملوّن يحبس الضوء الشاحب كأنه يخشى أن يتسرّب، والجدران تهمس بظل المثقفين الذين مرّوا هنا. فجأة اهتز هاتفي برقم غريب. أجبت.
«أحمد؟»
لم يكن الصوت صوتًا، بل ندى الصباح ونفَس النهر وكل ما يذكّرني بها.
«فاطمة؟!» همست باسمها كمن يجيب على سؤال قديم.
قالت «لا تُغلق باب قلبك يا أحمد. الأمل باقٍ، حتى لو غابت شمسها. فرحيلي ثمن بسيط مقابل أننا لم نصبح مثلهم. كتبت لك رسالة ستجدها بلا اسم ولا توقيع، في كتاب الأدب الذي كنا نقرؤه معًا في كلية الآداب ونتبادله بين الحين والآخر. افتح صفحة ثلاثمئة وسبع وستين، وستجدها هناك. فالأسماء ثقيلة في زمن كهذا، وما يهم أن يبقى الأثر».
ارتجف صوتي «لكنني لا أرى سوى النهاية... لماذا؟ لماذا اخترتم هذا الطريق؟»
أجابت بصلابة هادئة «لم نختر الطريق يا أحمد... اخترنا فقط ألا نتبعهم.»
ثم صمتت. انقطع الخط. لم تكن مجرد كلمات، بل يد غائبة امتدت لتوقظني من سكوني.
بقي صدى صوتها يتردّد داخلي. مددت يدي إلى ذلك الكتاب الأدبي العتيق الذي يجاور نبضي، كتاب تقاسمناه قراءةً في مقاعد كلية الآداب وأروقتها. فتحته على الصفحة ثلاثمئة وسبع وستين، فإذا بورقة صغيرة تنتظرني. لم تحمل اسمًا ولا توقيعًا، لكنها بخطها:
«يا أحمد، لا تُغلق باب قلبك. الأمل في بغداد، حتى لو غابت شمسها. ستجدني في كل ما نجا من الرماد، في التفاصيل التي تُعيد لبغداد روحها كلما احترقت».
لم تكن مجرد رسالة. كانت يدًا غائبة امتدّت لتوقظني من رمادي. ومنذ ذلك الصباح، صار وجودها القاسم المشترك بيني وبين هذه الأرض. أسمعها في نبرة بائع، أراها في شجرة تعبُرها الريح، ألمحها في صمت عجوز يحدّق في دجلة كما لو ينتظر من لن يعود.
وذات مساء شتوي، مشيت بمحاذاة النهر. كانت قد تحوّلت إلى وشم داخلي يخفق، ثم إلى رؤيا. رفعت بصري، فإذا نجم يتكوّن على مهل، يخط اسمها بخفة الهمس. عندها فقط فهمت أن جرحها يسكنني كما تسكن المدينة جرحها.
فاطمة هناك، لا جسدًا، بل حضور ينثر الندى من كفها، ويضحك كما لو أنه يعيد الحياة لشيء انطفأ في داخلي. غيابها صار طقسًا يحمل وعدًا بأن الحب حين يصفو يُبعث في المعنى والمجاز.
وفي كل لحظة يخفت فيها الضوء، أصغي. وما زالت تُناديني من عمق الروح. وما زلت أجيب بقلب لا يعرف السكون.
***
عبد الله محمد شريف أحمد الزعبي
كاتب وباحث ومترجم من الأردن