آراء
إبراهيم الجميلي: دور الانتخابات النيابية في تهديد السلم المجتمعي.. قراءة فلسفية

تُقدَّم الانتخابات النيابية في الفلسفة السياسية الحديثة باعتبارها آلية ديمقراطية لتحقيق الإرادة الشعبية وتداول السلطة بشكل سلمي. غير أن التجربة التاريخية والواقع المعاصر يكشفان أن الانتخابات ليست دائماً أداة لتعزيز السلم المجتمعي، بل قد تتحول، في ظروف معينة، إلى شرارة لتمزق النسيج الاجتماعي وإثارة النزاعات. هنا يثور السؤال الفلسفي: كيف يمكن لآلية يفترض أنها أداة للتوافق أن تصبح مصدراً للتفرقة؟
فمن منظور الفلسفة السياسية، يرى جان جاك روسو في العقد الاجتماعي أن الإرادة العامة هي جوهر الديمقراطية، وأن أي عملية انتخابية تنحرف عن تمثيل هذه الإرادة تتحول إلى صراع مصالح خاصة، الأمر الذي يقوّض السلم الاجتماعي¹. وعليه، فإن الانتخابات التي تُبنى على الولاءات الطائفية أو العرقية لا تؤدي إلى وحدة الإرادة العامة، بل إلى تفتيتها.
أما توماس هوبز فقد حذّر من أن المجتمع إذا غابت فيه سلطة حاكمة قادرة على ضبط التنافس السياسي، فإن هذا التنافس سيتحوّل إلى حالة "حرب الجميع ضد الجميع"². وهذا ينطبق على الانتخابات التي تجري في بيئات هشة مؤسساتياً، حيث تتحول الحملات الانتخابية إلى ساحات استقطاب حاد، يهدد السلم الأهلي.
بينما ترى حنة أرندت أن الخطر ليس في الاختلاف السياسي بحد ذاته، بل في تحويل هذا الاختلاف إلى "عداوة سياسية" تؤدي إلى نزع الشرعية عن الآخر. فالانتخابات، حين تُختزل في خطاب الكراهية والتحريض، تعيد إنتاج حدود الانقسام بدلاً من تجاوزها، مما يجعل المجتمع يعيش حالة "استقطاب دائم".
وأما في الفكر العربي المعاصر فقد أشار محمد عابد الجابري إلى أن الديمقراطية في المجتمعات العربية قد تتحول إلى "ديمقراطية عددية" لا تحترم قواعد التعددية السياسية، حيث تتحكم الهويات الأولية في التصويت، ما يجعل نتائج الانتخابات انعكاساً للخريطة الانقسامية، وليس تجاوزاً لها.
وأما من منظور الفلسفة الأخلاقية، نجد إن إيمانويل كانط يلفت إلى أن الفعل السياسي يجب أن يُحكم بمبدأ الكونية؛ أي أن يكون صالحاً لو طُبّق على الجميع⁵. فإذا كان السلوك الانتخابي قائماً على التضليل أو شراء الولاءات أو بث الخوف، فهو فعل لا يمكن تعميمه أخلاقياً، وبالتالي يفتقد المشروعية الأخلاقية، ويهدد استقرار المجتمع على المدى الطويل.
وبالمثل، يرى جون رولز في نظرية العدالة أن الانتخابات لا تحقق العدالة السياسية إلا إذا جرت في ظل شروط الإنصاف فإذا انعدمت هذه الشروط، أصبحت الانتخابات وسيلة لإعادة إنتاج السلطة والهيمنة، بدلاً من تعزيز الاستقرار.
وهنا يتضح إذن أن الانتخابات، وفي غياب مؤسسات قوية وثقافة ديمقراطية راسخة، قد تتحول من أداة للتداول السلمي للسلطة إلى مسرح لتأجيج الانقسامات، وهو ما قد يقود إلى اضطرابات، أو حتى إلى انهيار السلم المجتمعي. فالمسألة ليست في وجود الانتخابات بحد ذاتها، بل في الإطار القيمي والمؤسساتي الذي تُجرى فيه. أي إن أي إنتخابات نيابية، حين تُمارَس في ظل بيئة سياسية وأخلاقية سليمة، يمكن أن تكون أداة لتعزيز السلم المجتمعي. لكنها في بيئات الانقسام الحاد وضعف المؤسسات، تصبح عاملاً مهدداً لهذا السلم. وهذا ما أدركه الفلاسفة من هوبز إلى رولز، حين شددوا على أن السياسة ليست مجرد آلية إجرائية، بل منظومة قيمية وأخلاقية متكاملة.
***
الدكتور ابراهيم احمد شعير الجميلي/ العراق - كركوك
....................
المراجع
1. روسو، جان جاك. العقد الاجتماعي. ترجمة عادل زعيتر. القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1954.
2. هوبز، توماس. الليفياثان. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. القاهرة: مكتبة مدبولي، 1991.
3. أرندت، حنة. في السياسة. ترجمة عبد الغفار مكاوي. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2012.
4. الجابري، محمد عابد. الديمقراطية وحقوق الإنسان. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994.
5. كانط، إيمانويل. أسس ميتافيزيقا الأخلاق. ترجمة جلال الدين سعيد. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008.
6. رولز، جون. نظرية العدالة. ترجمة ليلى الطويل. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.