آراء
سلام المالكي: ألمؤسسات الاكاديمية بين الأولويات والتريند.. الى أين المسير؟

مزّيف أيام التسعينات كان "يجرخ" العملة المعدنية (250) فلس ثمانية الشكل ليحولها الى عملة (100) فلس المدّورة...تلك طرفة انتشرت في حينه. اتذكرها مع كل اطلالة لمستشار او خبير او مسؤول للحديث عن إنجازات الوزارة في انشاء اقسام او كليات للطاقة المتجددة او المستدامة او النظيفة، والذكاء الصناعي والروبوت والطائرات المسيّرة...الخ، ومنذ سنوات كان ال"تريند" هو الاستدامة والتنمية البشرية. بلى لا ينكر عاقل أهمية تلك العناوين سواء بتفاصيلها او مجاراة لسياقات التطور عالميا، خاصة في حالات الرخاء او ما يمكن اطلاق مصطلح "الرفاهية والترف الفكري والتقني" عليه.
للانصاف وبغرض تسلسل الأفكار والطرح المنطقي، أقول، ان الهدف الأساس للمؤسسات الاكاديمية بجامعاتها ومراكزها البحثية والتخصصية هو مواكبة الحاجات المجتمعية والبنائية للبلد من خلال تهيئة الملاكات والكفاءات المناسبة لها بالتوازي مع الموارد المتوفرة او المنتظرة، بل والعمل على إيجاد موارد إضافية داخلية وخارجية (أساس فكرة الجامعات المنتجة). بمعنى آخر هو الاستجابة للمتطلبات المرحلية وبرؤية مستقبلية مبنية على أسس علمية في الاستقراء والتنبؤ، بما يضمن عدم هدر الموارد من خلال تحديد الأولويات. ذلك لا ينفي ولا يمنع البتّة من التطرق لمواضيع او تحديات عالمية قد لا تتعلق بالواقع المحلي بشكل مباشر، وذلك بغرض استمرارية التفاعل مع المجتمعات العالمية. كل ما هو عكس ذلك، لا يمكن تسميته بغير فقدان البوصلة او اختلالها ومن شاء الصرامة سيقول هو عبث ونزق فكري... هو يقول ولست انا (انا لست صارما...!!!).
لنعكس ما سبق على حال بلد كالعراق. العراق بلد يعتمد بشكل يكاد يكون 100% على النفط، بعد ان كادت تختفي الزراعة وهي التي كان يمكن ان تكون المصدر الثاني للدخل القومي في بلد الرافدين وسهل الوادي الذي كان خصيبا، فما الذي فعلته الجامعات العراقية؟. منذ عقود تم شبه اغلاق للأقسام الهندسية ومتعلقاتها في تخصص النفط او اهمال ما تبقى منها بشكل رهيب، ولم تعد الأقسام ذات العلاقة كالكيمياء والميكانيك والمدني (مثلا) تضع متعلقات الصناعات النفطية ضمن أولوياتها في المناهج الدراسية (ان وجدت أصلا)، حتى باتت التقنيات والمصطلحات الحديثة في هذا المجال بعيدة جدا عن خريجي تلك الأقسام والكليات سواء من الدراسة الأولية او العليا...كما صرّح بذلك العديد من الخبراء. من الناحية الأخرى تم اغلاق اقسام الموارد المائية (دراسة أولية) في معظم كليات الهندسة باعتباره تخصصٌ مهملٌ ووصل الامر لتجنب طلبة الدراسات العليا في اقسام الهندسة المدنية للخوض في هذا التخصص باعتباره (دون مستقبل=ما يسوه)، وباتت الدراسات المتعلقة بالموارد المائية محصورة في قياس نسب التلوثفي الأنهار والبحيرات، او بقاياها، بشكل ممل ومكرر سنة بعد سنة بعد سنة بعد سنة....الخ، بحيث انها تكاد تكون مجرد تغيير صفحة العنوان الأولى، دون ان يعير لها احد اهتماما. توازيا مع ذلك، كان الإنجاز الأكبر لكليات الزراعة هو تغيير اسمها كي يحمل خرّيجوها لقب "مهندس" بدلا عن "زراعي".. واين هذه من تلك!!!، ضمن حملة تغيير أسماء الكليات لاقحام القاب دونما استحقاق وليست لها سوابق ولا مثيلات في الجامعات العالمية الرصينة، وتلك في رأيي كارثة ليس هذا محلّها.
لو سأل سائلٌ أبسط بائعة للخضروات في سوق شلال (سوق شهير في بغداد) عن اهم مشاكل العراق منذ عقود، لن تحيد الإجابة عن انها الهدر العظيم لموارد العراق النفطية سواء للشركات الأجنبية المستخرجة او لشراء المشتقات النفطية وأولها الغاز وأنواع الوقود والزيوت، ذلك إضافة لشحّة الموارد المائية التي قد تصل لمياه الشرب (العراقيون يشربون مياها مستوردة من دول الجوار)، بعد ان اندثرت الزراعة تقريبا وباتت لا تشكل النسبة الكبيرة للاستهلاك المحلي ناهيكم عن التصدير. وبالنتيجة ينعكس العجز النفطي والمائي على حال انتاج الطاقة الكهربائية ومنظومتها المتهرئة أصلا. أليست تلك حاجات مجتمعية تستوجب الانتباه من قبل المؤسسات الاكاديمية؟
كمهندس وباحث قضى نصف عمره على الأقل في تلك المجالات داخليا وخارجيا أقول، ان مشاكل الصناعات النفطية والموارد المائية والزراعية والكهرباء نوعان. الأول اداري و(ارادي...مشتقة من كلمة إرادة، وهذه تحتها عدّة خطوط حمراء)، وهذه لن ادخل فيها لاسباب عدّة، اما الثاني فهو فنّي. لله وللشرفاء اجزم ان الناحية الفنّية لحل كل مشاكل العراق يسيرة بدرجة معقولة بالامكانات المتوفرة حاليا لوقف التدهور، وبإنتاج وتأهيل الملاكات البشرية من خلال منح المؤسسات الاكاديمية استحقاقا وأولوية لتلك التخصصات بدلا عن تشتيت المتوفر حاليا من الملاكات المتقدمة (معظمها على وشك الإحالة على التقاعد او الوفاة) في الولوج في تخصصات فرعية لا يمكن عدّها ضمن أولويات بلد لا يكاد يسد حاجته المالية بسبب سوء استخدام الموارد النفطية وتعطش أراضيه واهله ويستورد معظم احتياجاته الغذائية بسبب التخلف في إدارة الموارد المائية واساسيات الزراعة. ما أهمية الذكاء الصناعي في حل مشاكل البلد حين لا توجد الملاكات البشرية المؤهلة في اساسيات ومتطلبات تلك المشاكل؟ ما الذي يمكن للروبوت ان يصنعه حين لا تتوفر الطاقة التشغيلية بل واين سيعمل الروبوت أصلا؟ هل من الحكمة بيع النفط الوطني بأوطأ الأسعار مقابل استيراد متطلبات الطاقة الشمسية (مثلا) من الخارج باغلى الأسعار ناهيكم عن الصيانة الدورية؟
اين الحل يا فهيم؟ هل يكفي التباكي على وجود أخطاء في صناعة القرار دون وضع ولو تصور للحلول؟ لا سيدي لا ادّعي علوية الفهم فما صاحبك سوى انسان بسيط. الحل يا سادة يا كرام، اطال الله تعالى اعماركم وبقاءكم في مناصبكم، يكمن في وضع تخصصات النفط والصناعات النفطية على رأس أولويات الدراسات الاكاديمية وتهيئة المختبرات والمعدات الحديثة، بغرض انتاج ملاكات بشرية مؤهلة بأحدث المهارات والمعارف في تلك المجالات لاستلام زمام أمور تلك الصناعة ومضاعفة الناتج المالي الإجمالي منها وصنع سياسات كفوءة للتعامل مع الشركات العالمية. ذات الحال مع تخصص الموارد المائية التي يكاد يندثر المختصون (فعلا) فيها وتعشيقها مع تخصص الزراعة بما يجعل الخريج يفخر بلقب "زراعي" دون ان يتمسح زورا وبهتانا بلقب "مهندس". وكي لا تكون خارج السياقات العالمية، يجب ادخال الذكاء الصناعي والروبوت والطائرات المسيّرة كمناهج ضمنية في تلك التخصصات وغيرها مثل الهندسة الميكانيكية والكهربائية والمدنية...الخ، لانها أصلا يا سادة يا كرام ليست تخصصات مستقلة بل هي مهارات وأدوات مساعدة في كل التخصصات تقريبا حتى الإنسانية منها..لو كنتم تعلمون!! اكشحوا جانبا عمّن يريد ان "يتمشغل" ويجعل لنفسه موقعا بدعوى خبرات شخصية في الذكاء الصناعي وما يحاولون بثّه من مخاريق وكأنهم سيخرقون الأرض ويبلغون الجبال طولا من خلاله...و حقكم لا يمكن للذكاء الصناعي تطوير البلد قيد انملة ما لم تتوفر فيه الموارد البشرية المؤهلة عاليا في مجالات الاحتياجات الحقيقية بما يمّكنها من استغلاله استغلالا صحيحا واعيا...بالوضع الحالي سيكون تخصص الذكاء الصناعي والروبوت (مثلا) كحال من اشترى تلفزيون 3D ويعتمد على مولدة الشارع في تشغيله بما نعرفه جميعا من تذبذب الفولتية والتردد.
أقول قولي هذا غير آمل لوجود سمّاع لانها قد وضعت أقلام القرارات وجفّت صحف الأوامر...لكنما هي ابراء للذمّة امام الله تعالى وأبناء البلد والله تعالى لاجيالنا القادمة.
***
أ.د. سلام جمعه باش المالكي