آراء

مصطفى غلمان: الكرامة كمعركة معنى لا مجرد صراع قوى

فرانز فانون: "الاستعمار لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يسرق اللغة والخيال، ليجعل المستعمَر يشك في إنسانيته." إدوارد سعيد: "المقاومة فعل معنى قبل أن تكون فعل قوة."

في المشهد العالمي الراهن، تتبدّى الكرامة بوصفها المعيار الأكثر انكشافًا في لعبة الهيمنة. فحين تُستنزَف كرامة الشعوب تحت مسمّى “النظام الدولي” أو “العولمة الديمقراطية”، ينفضح القناع الذي طالما ارتدته القوى الاستعمارية الجديدة لتجميل سرديّتها عن الحرية والحقوق. لقد تحوّلت الديمقراطية الغربية، التي تغنّت بالعدالة والمساواة، إلى واجهة برّاقة تخفي خلفها اقتصاد القوة العارية. منطق يُعيد توزيع الخرائط، ويُدير المستقبل كسلعة، ويحوّل الضعف إلى بنية ثابتة في جسد الدول التابعة.

لكن الوجه الآخر لهذه المفارقة يكمن في وعي الضحايا أنفسهم. فالدول الضعيفة، التي تعي هشاشتها، تنخرط غالبًا في لاوعي جماعي يضخّ قلقًا وجوديًا. هل المقاومة مجدية أمام منظومة تمتلك كل أدوات الفعل والتأثير؟.

 هنا تتشكل مفارقة عميقة. إذ إن الشعوب تدرك استلابها، لكنها تخشى أن يصبح الرفض نفسه مجرّد طقس احتجاجي بلا أثر، فيتحول السؤال عن الكرامة إلى سؤال عن معنى التاريخ.

الفلسفة تكشف أن هذه الأزمة ليست صراع قوى فحسب، بل معركة على المعنى. فالقوة العظمى لا تكتفي بإعادة رسم الحدود السياسية، بل تعيد تشكيل المخيّلة. كيف يُتصوَّر المستقبل، كيف يُعاد تدوير العالم بحيث يبدو استتباع الضعفاء قدرًا لا مهرب منه. وهنا يصبح الصمت شكلًا من أشكال القبول، كما يصبح التمرّد اختبارًا للحرية في أعمق معانيها.

إن استعادة الكرامة، إذن، ليست شعارًا أخلاقيًا، بل مشروعًا وجوديًا. بناء وعي قادر على اختراق لعبة القوة، وابتكار سرديات بديلة تعيد للإنسان مكانته كغاية لا كوسيلة. إنها دعوة لإحياء السؤال الفلسفي القديم. أيّ عالم نريد، وأيّ إنسان؟ فالمستقبل لا يُصنع فقط في مصانع القوى العظمى، بل في إرادة الشعوب التي ترفض أن تُختزل إلى هامش في نصّ كُتب بيد غيرها.

إنه لا حياة حقيقية بلا كرامة، فهي الأساس الذي تنبني عليه الذات الإنسانية وهويتها الأخلاقية. الكرامة ليست مجرد شعور ذاتي، بل ممارسة قيمية وروحية تحمي الإنسان من الانحطاط، وتمنحه القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والعدل والظلم.

حين تُهدَر كرامتنا، يتشوه عالمنا الداخلي والخارجي، وتصبح الرؤية غائمة، ويعمّ الضعف والاستلاب، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. هذه الأزمة لا ترتبط بعِرق أو جنس أو وطن بعينه، بل هي حالة إنسانية عامة، تتجلى عندما تُهمل القيم الأخلاقية ويتسلط الفساد السياسي والاجتماعي على حياة الناس، كما لاحظها كانط في فلسفة الأخلاق: "الإنسان كغاية في ذاته لا يجوز أن يُعامل مجرد وسيلة"، وهو ما يخرق أساس الكرامة حين تُستباح الحقوق، أو يُفرض الصمت على الضمير.

تاريخيًا، شهدت الإنسانية فظائع ومآسي ارتكبت ضد الكرامة، من المجازر إلى الاستلاب السياسي والاجتماعي، وقد حاول فلاسفة مثل هيغل وتولستوي وباكون التعبير عن ضرورة صون الكرامة كشرط للحياة الحرة والمستقلة. هيغل ربط الحرية بالوعي الأخلاقي الجماعي، مؤكدًا أن المجتمع الذي يهان فيه الفرد يفقد القدرة على التطور الروحي والسياسي؛ وبالمثل، يشير تولستوي إلى أن انهيار القيم يؤدي إلى استلاب الذات، وفقدان معنى الحياة.

إن مواجهة هذه الأزمة تتطلب استنهاض الكرامة كقيمة مركزية في السلوك الفردي والجماعي، وإعادة بناء نظم عادلة تكرّس الاحترام للإنسان، وتمنح الحياة معناها الحقيقي، بعيدًا عن التسلط والغبن. فالحياة بلا كرامة، كما يرى سارتر، تصبح عبثًا، لا مكان فيها للحرية الحقيقية أو للوعي الأخلاقي، وهي إذًا مجرد بقاء مادي، دون أي معنى أسمى أو إحساس بالعدالة الإنسانية.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

في المثقف اليوم