قضايا
نهاد الحديثي: المثقف والعزلة

تبدو صورة المثقف لدى المجتمع إنساناً كثيف القراءة، واسع الاطلاع، حكيماً، ورصيناً في آرائه، ويستعمل مصطلحات قد لا تكون معلومة لدى المستمع، وفي حقيقة الأمر أن هذا التصور قد أحدث فجوة بين المثقف والمجتمع. لقد صار معلوماً أن المثقف كائن منعزل ومتعال في الآن ذاته، بعد انعزاله -واعتزاله ربما- الطويل في زمننا هذا، وقد أسهم في إحداث هذا الانعزال المثقف نفسه فضلاً عن تصور المجتمع حوله، وفي نهاية المطاف يجد المتابع أن المثقف الفاعل قليل الوجود، ونادر الحدوث؛ لأنه -من وجهة نظري- فاعلية وتأثير في المجتمع بشكل إيجابي، والانعزال ينفي هذا الأمر. ولعل انتشار منصات التواصل الاجتماعي قد أظهر فراغاً محتوى معظم المثقفين، وضاعف من عزلتهم إن بدفعهم إلى الظل تارة، أو بعدم قدرتهم على الاندماج مع الواقع ووضع حلول لما يعاني منه المجتمع بشكل ناجع من جهة أخرى، وكثير ما نجد أن فكر المثقف وخطابه لا يتماشيان مع المجتمع، بل هما في اغتراب مضاعف
عزلة المثقف تعني في حالة من حالاتها عزلاً قسرياً من قبلهم لذواتهم الفاعلة، وإقصاء للمجتمع أيضاً عنهم، وهذا العزل بلا شك نوع من التخاذل تجاه المجتمع، بل خذلان للمجتمع، وهنا تجدر الإشارة إلى محاولة المفكر الإيطالي جرامشي في تحديد وظيفة المثقف أو المفكر إذ يؤكد أن وظيفته لا يقوم بها كل الناس، فدور المثقف هو التفاعل مع المجتمع وجعل فكره متماشياً ومنسجماً مع حاجات المجتمع ومتطلباته،،لقد عزل المثقف نفسه في وقت صار العالم يعيش في تطبيق إلكتروني أو برنامج تواصل في متناول اليد، وقد كان بإمكانه الاستفادة من هذه التقنيات بتوجيه خطابه إلى شريحة كبيرة من المجتمع، خاصة وأن تداول مقاطع هذه البرامج يمتاز بسرعة الانتشار بين شريحة كبيرة من أبناء المجتمع، فهي تغري المتلقي بسهولة الوصول إلى المعلومة وقصرها
لجأ كثير من الفلاسفة وأهل الفكر والمعرفة إلى العزلة والوحدة والتأمل لأسباب ودواعٍ مختلفة؛ فمنهم من يتخذها مذهبا دائما له في الحياة، مثل: أبو العلاء المعري، الذي لقب بسببها برهين المحبسين؛ لأنه كان -بالإضافة إلى الوحدة- ضريرًا أيضا. ومنهم من يلوذ بها احتجاجا على واقع سياسي أو ثقافي كما فعل المفكر المصري الراحل جمال حمدان، الذي اختار أن يحبس نفسه في غرفة ضيقة إلى أن توفي سنة 1993 نتيجة تسرب لأنبوب الغاز في غرفته. وهناك فئة لجأت إلى الوحدة والعزلة للتفرغ للتأمل والمراجعة، وخرج منها بتبني منظومة معرفية جديدة، مثل: الإمام أبو حامد الغزالي، الذي ضاقت به - حسب تعبيره- الأفكار والرؤى والمذاهب فلجأ إلى الوحدة والتأمل، وخرج منها بسيرته الذاتية "المنقذ من الضلال" متبنيا مذهب التصوف والعرفان ليكون بعد ذلك أحد الرواد في هذا المذهب ومن الذين أسهموا بعد ذلك في القضاء على الفكر الفلسفي والاتجاه العقلي في الإسلام بعد تأليفه كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة". والمفكر السعودي الراحل عبدالله القصيمي الذي قضى ثمانية عشر عاما بعيدا عن الأضواء قبل أن يفاجئ العالم برائعته الفلسفية "العالم ليس عقلا.
ومن الذين اختاروا العزلة بديلا عن حياة الصخب والأضواء الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844 - 1900)، وفي تلك المرحلة ألف أعظم كتبه الفلسفية وأكثرها أهمية، منها رائعته الفلسفية والادبية "هكذا تكلم زرادشت" والتي تحدث نيتشه عن ظروف تأليفها بالتفصيل في كتابه الذي يشبه سيرته الذاتية "هذا هو الإنسان" ولكن هذه الوحدة التي رافقتها عملية انكباب عميقة في قراءة الكتب والتأمل سببت له الكثير من أمراض الصداع والتي أدت به ـ إضافة إلى ظروف أخرى ـ إلى نهاية مأساوية وهي الجنون ثم الموت وهو في ريعان شبابه
كتب المفكر الإيطالي بيترارك (1304 - 1374) كتابا عن العزلة والوحدة وتحدث فيه عن متعة الحياة المنزوية، التي عاشها في بعض أرياف إيطاليا وجنوب فرنسا، ولكن الوحدة التي دعا إليها بيترارك لم تكن وحدة الراهب في صومعته، وإنما كما يقول هاشم صالح في كتابه "مدخل إلى التنوير الأوروبي" ص 91: "إنما العالم والأديب الذي ينزوي بعيدا عن المدن وضجيجها وعجيجها فهناك يكون حرا ويتفرغ للقراءة والتأمل العميق فالوحدة ضرورية من أجل التأمل وينبغي أن تحمي نفسك أحيانا من غلاظة الناس؛ لكي تستطيع أن تفكر بهدوء وتأخذ مسافة من الأشياء والأحداث السريعة المتقلبة والمتزاحمة.
إن الوحدة والعزلة تساعد الإنسان على الابتعاد عن المجادلات العقيمة التي تؤدي أحيانا إلى الاضطرابات النفسية، فيتجه إلى حالة من العزلة تساعده على صفاء النفس والهدوء الروحي بعيدا عن صخب الحياة وتداعياته على النفس والبدن، بحيث يستطيع من خلال ذلك إيجاد حالة من الاطمئنان النفسي والفكري والسلام الداخلي تجعله قادرا على التفكير بشكل سليم بعيدا عن المؤثرات النفسية التي تأتي من هنا وهناك، وفتح آفاق فلسفية ونوافذ معرفية جديدة بعيدة عن التأثر بالصراعات الفكرية وما تجلبه من تأثيرات نفسية على الفكر والنفس.
إنّ الوحدة والعزلة بعيدا عن ضجيج المدن والناس هي مراجعة للنفس والأفكار من أجل الانطلاق إلى أفكار أكثر تماسكا وجمالا وإشراقا، ولذلك نلاحظ من خلال رحلة الشيرازي إلى الوحدة والتأمل، أنّه خرج منها بحصيلة معرفية استطاع من خلالها إثبات ما خرج منها بالبرهان عن طريق العرفان وأيضا إيجاد نظرية فلسفية توافقية ما بين البرهان والعرفان أسماها بـ "الحكمة المتعالية" ودونها في كتابه الموسوعي الضخم "الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة.
المثقفون والمتعلمون هم العمود الفقري لكل مجتمع ومنهم يخرج القادة الذين يقودون شعوبهم نحو الأفضل من تطوير وتقدم وازدهار، فأين مثقفينا من هذا؟ لماذا لا يقودوا مثقفو كل قريه وبلد مجتمعهم نحو الأفضل ويؤثرون على مجريات الأمور؟ ولماذا يقف المثقف العربي الفلسطيني في الداخل، موقفا سلبيا اتجاه ما يجري في مجتمعه؟ هل هذا الموقف السلبي وعدم الاكتراث بما يجري من عنف وقتل وتردي في المجتمع، نابع من التربية الأسرية التي تركز على الانتماء والولاء للعائلة وليس للمجتمع أو نتيجة عجزه أو نتيجة تهميشه من قبل المجتمع ؟ أو نتيجة أنانيته واهتمامه بمصلحته الخاصة؟ أو كما يقول المثل زاحت عن ظهري بسيطة؟.
غياب المثقف يلقي بظلاله السلبية على تطور وتقدم المجتمع، فلا توجد ثقافة في المجتمع ما دام لا يأخذ المثقفون دورهم الفعال في المجتمع، لان المثقف هو الذي يملأ عقل الفرد بالقيم والأخلاق والعلم والمعرفة، وهو الذي يرشد ويوجه ويصنع الوعي عند الفرد، ويحرك الجمود السائد في المجتمع، وهو البوصلة الموجهة، وهو الذي يصلح الخلل في المجتمع، وتغير أنماط الحياة نحو الافضل، وهو الذي يبني منظومة ثقافية وعلمية القادرة على مواجهة تحديات الحياة، وهو الذي يعالج ويقلص الأوضاع السيئة والسلوك العنيف، ويحارب الجهل، وهو الذي يبني الأجيال واعدادهم اعدادا جيدا لتسلم مهامهم الاجتماعية مستقبلا،،، انعزال المثقف جانبا دون التأثير على مجريات الحياة من شأنه أن يزيد الوضع الاجتماعي ترديا وسوأ، لان الثقافة والعلم هما الدرع الواقي للمجتمع من الفساد والجهل والفوضى وانتشار العنف والجريمة والانهيار.
***
نهاد الحديثي