قضايا

يونس الديدي: كل معرفة لا تؤدي إلى المحبة، فهي جهل مقنّع

إنّ هذا الزمن الذي يفيض بالمعلومات ويضجّ بالتحليلات، ننسى فيه أحيانًا أن المعرفة ليست مرادفًا للحكمة، وأن العقل، رغم عظمته، قد يتحوّل إلى أداة تهديم إذا لم تسكنه الرحمة. لقد أصبح بإمكان الإنسان أن يعرف كل شيء تقريبًا، لكنه ما زال يجهل أهم شيء: أن يكون إنسانًا.

المعرفة، حين لا تؤدي إلى المحبة، لا تختلف كثيرًا عن الجهل؛ إنها مجرد جهل مقنّع بلغة أنيقة. هذا هو لبّ القول، وهو ما أدركه الصوفيون حين قالوا: “العلم قيد، والحب حرية، فلا علم يُنقذ إلا إذا سار في طريق الحب.”

من المعرفة إلى المحبة: لماذا يُختبر العقل بالقلب؟

حين كتب ابن عربي أن “العلم لا ينفع إن لم يُثمر محبة”، لم يكن يفصل بين العرفان والعقل، بل كان يقول ضمنًا إن المعرفة التي لا تُنتج سلامًا داخليًا وخارجيًا هي خيانة للمعنى. كل فكرة لا تُحرّر، لا تُرحم، لا تُحبّ، هي فكرة ميتة، مهما كانت دقيقة ومنهجية. فالفكر إذا لم يحمل أثر القلب، يتحوّل إلى آلة؛ والقلب إذا لم يتغذَّ على نور العقل، ينقلب إلى عاطفة عمياوية.

ولهذا كان الصوفيون يربطون بين العلم والمحبة، لا ليُلغوا العقل، بل ليُعيدوا له طهارته الأولى: أن يعرف لا ليُسيطر، بل ليُشارك؛ أن يفهم لا ليُدين، بل ليعذر؛ أن يكتشف لا ليحتكر، بل ليُهدي. “ليس العالِم من كثرت معارفه، بل من رقّت رحمته.”

الجهل المقنّع: حين تصبح المعرفة أداة للتفريق

انظر من حولك، في السياسة، في الإعلام، في الفضاء الرقمي: كم من عارف يتحدث بلغة تقسّم، تُقصي، تحتقر؟ كم من مثقّف يُغذّي الحروب الرمزية، ويعيد إنتاج العنف باسم “الحقائق”؟

في هذه اللحظة، نكتشف أن المعرفة ليست محصّنة ضد الكراهية. بل إن أخطر أوجه الجهل هي تلك التي تتسلّح بلغة علمية ومنطقية لتمرير البغضاء.

إن الحروب لم تكن لتقوم لولا جهل الناس بالآخر.

والاستعمار لم يكن ليستمر لولا جهل المستعمِر بإنسانية المستعمَر.

والعنصرية لم تكن لتُخلق لولا جهل الإنسان بوحدة الأصل الإنساني.

كلّ كارثة كبرى في التاريخ يمكن أن نُرجعها إلى شكل من أشكال الجهل الذي يرتدي قناع المعرفة.

الحب كأعلى مراتب المعرفة

من قال إن الحب عاطفة فقط؟ في العرفان الصوفي، الحب هو أعلى درجات الإدراك. لأنك حين تُحب، فأنت ترى الإنسان في ضوءه لا في عيوبه، في احتماله لا في ماضيه، في ما يمكن أن يكون لا ما هو عليه الآن.

ابن عربي يقول: “مذهبنا مبني على المحبة، وكل من لم يكن محبًّا لا مذهب له عندنا.”

أما جلال الدين الرومي، فقد كتب آلاف الأبيات ليقول شيئًا واحدًا: المعرفة الحقيقية ليست في العقل بل في القلب الذي يعرف بعين الله. فكل معرفة لا تُفضي إلى التسامح، لا تستحق أن تُدعى معرفة. وكلّ فكر لا يُنتج تعاطفًا، فهو شكل متقدّم من اللاوعي.

السلام كثمرة ضرورية للمعرفة الحقة

إذا كانت المعرفة لا تؤدي إلى السلام، فهي ليست معرفة، بل أداة تقنية بلا روح. السلام لا يُولد من موازنات القوى فقط، بل من الإيمان العميق بأننا نُشبه بعضنا أكثر مما نختلف، وأننا نحتاج بعضنا أكثر مما نتصارع.

لقد تحوّلت كثير من الجامعات إلى مصانع للمعلومات، لكن دون أن تُنتج إنسانًا أكثر تواضعًا، أكثر لطفًا، أكثر استماعًا.

والسؤال الجوهري: ما جدوى أن تعرف كل شيء، إذا لم تُحب شيئًا؟

وما نفع أن تفهم القوانين الفيزيائية للكون، إذا لم تستطع أن تُنصت لطفل يبكي، أو أن تسامح من جرحك، أو أن تتأمل زهرةً تنمو بصمت؟

الختام: نحو أخلاق معرفية جديدة

نحتاج اليوم إلى ما يمكن أن نسمّيه أخلاق المعرفة. لا يكفي أن نعرف، يجب أن نعرف لنعين، لا لنُدين.

يجب أن نعيد بناء الإنسان العارف لا باعتباره موسوعة تمشي، بل قلبًا حيًّا يرى في الآخر مرآته. المعرفة الحقيقية ليست قوة، بل أُخوة.

وإذا لم نُعد ربط المعرفة بالمحبة، فإننا نسير نحو حضارة هائلة المعرفة، ولكن منعدمة الإنسانية.

وهذا، في النهاية، هو الجهل الأكبر.

***

يونس الديدي - كاتب مغربي

 متخصص في الشؤون الاجتماعية والسياسية

في المثقف اليوم