قضايا

ثامر عباس: كيف نتصالح مع الماضي ونخوض تجربة النسيان؟!

محنة العراقيين مع التاريخ

ان فحوى هذا الموضوع يتقاطع تماما "مع كل الدعاوى التي ينادي أصحابها بضرورة إسدال ستار (النسيان) على الماضي وطيّ صفحات التاريخ القديم، لكي يصار بمقدورنا التخلص من أعباء المواريث والتطلع من ثم صوب آفاق المستقبل دون أن نكون مثقلين بأوزار الأول ورزايا الثاني. ان زعم البعض بإمكانية إجراء عملية (النسيان) وتصفير مخزون الذاكرة، دون خوض تجربة (استحضار) الماضي لاستكشاف ما أقصي وأهمل، و(استنطاق) التاريخ لإماطة اللثام عما أسكت عنه وأحجم القول فيه، لن يكون مردودها سوى تكرار حصاد الفشل الذريع والخذلان المريع !. 

صحيح ان محاولات حثّ الآخرين على نسيان الماضي والغفلة عن التاريخ، تكون في بعض الحالات مجدية وربما نافعة على الصعيد الذاتي / الشخصي، من حيث التخلص من التوترات والاحتقانات التي تنغص على الذات صفائها الذهني وهدوئها النفسي، ولكنها على الصعيد الجماعي / الاجتماعي قد تكون مفضية الى تفعيل عوامل الدمار الاجتماعي والخراب الحضاري!. ليس لأن الأحداث التي قاسى منها الإنسان / الفرد وعانى من عواقبها وتداعياتها قليلة الألم ومحدودة الضرر، وإنما لكونها لا ترقى الى مستوى ما تخلفه من كوارث وفواجع فيما لو نظر إليها بالمنظار التاريخي والسيكولوجي للجماعات المكوّنة للمجتمع.

وفيما لو تجاوزنا مخزون ذاكرة (الأفراد) وتخطينا حصيلتها من الأحداث الساخنة والوقائع البارزة التي استبطنتها عبر التقادم الزمني والتراكم المكاني، وذلك أثناء تعاطيها المستمر مع السرديات التاريخية المتداولة، وانخراطها الدائم بالمجايلات الاجتماعية المتفاعلة. فإنه من المتعذر، بلّه المستحيل – التغاظي عما تحتشد به مخزونات الذاكرة (الجماعية أو الجمعية) من خطوب جائرة وندوب غائرة لا يمكن الاستهانة بها أو تجاهلها، فضلا"عما قد يكون ترسب في قيعانها وتغلغل بين تجاويفها من إيحاءات سيكولوجية لا تزول وتمثلات ذهنية لا تمحى. لا بل ان أية محاولة متهورة تستهدف إسدال الستار عليها أو التقليل من شأنها، كائنة ما كانت المزاعم والادعاءات، سوف تأتي بمردود عكسي لم يكن في الحسبان توقعه أو أخذه على محمل الجد، بحيث لا يجعل من تلك الإيحاءات والتمثلات أكثر صلابة وأشد تماسكا"مما كانت عليه سابقا"فحسب، وإنما كذلك سيحفز مكوناتها ويستنفر عناصرها لتصبح أسهل في التعبئة الإيديولوجية وأسرع في التجييش السياسي.

والحال إذا كان الأمر على هذه الشاكلة من التعقيد والحساسية، كيف يمكننا الحديث عن إمكانية حمل الجماعات المتكارهة والمتصارعة، على خلفية احتقانات الماضي والتباسات التاريخ، (التصالح) مع هذا الكم الهائل من الجروح والآلام النفسية الممضّة، ومن ثم إسقاط هذه التركة الثقيلة في غياهب (النسيان) هكذا ببساطة دون أي ثمن ؟!. وفي إطار البحث عن مخرج يتيح الانعتاق من هذه المتاهة، ربما سؤال يطرح نفسه : ما العمل إذن ؟!، وما هو السبيل أو المدخل الذي يمكن أن يحل لنا هذا اللغز المحيّر وينتشلنا من هذه الدوامات العاصفة ؟!.

الحقيقة أنه لا يمكن الإفلات من هذا (الخانق التاريخي) إلاّ بانتهاج طريق واحد صعب ومكلف، ولكن لا بديل له ولا خيار سواه، وهو اضطلاع كل من ينشد الخلاص من هذه الفواجع المتراكمة والمواجع المتفاقمة، التي لم تبرح تفتك بكل ما يبعث الحياة في كيان العراق والعراقيين من مؤرخين وباحثين وأكاديميين. وذلك بتبني مشروع حضاري شامل لا يستهدف فقط (استحضار) مواريث (الماضي) و(تحيين) سرديات (التاريخ)، بقصد تكرار أحداثها واجترار مضامينها تحت يافطة (إعادة قراءة التاريخ)، كما حصل ويحصل لحدن الآن فحسب. وإنما بغية (تفكيك) منظومات البنى العميقة ونبش طبقات الطمى الراكدة بكل ما فيها من غثّ وسمين، ومن ثم تعريضها لعمليات (نقد) صارم و(تعرية) جذرية لا تستثنى حقل من الحقول المحرمة إلاّ وهتكته، ولا تعفي مضمار من المضامير الممنوعة إلاّ وانتهكته !.

وهكذا، وبعد هذه العملية الجريئة والاقتحامية - وليس قبلها بالضرورة - الشروع بعمليات (مكاشفة) صريحة و(محاسبة) قاسية لكل ما حوته الذاكرة التاريخية واستبطنه المخيال الجمعي من أحداث (ملفقة) ووقائع (مختلقة)، ساهمت بتدوينها وتكريسها أنظمة سياسية طاغية ومؤسسات دينية فاسدة، بحيث يعاد ترتيب وموضعة تلك الأحداث والوقائع وفقا "لمصادرها الأصلية دون إضافات وسياقاتها الفعلية دون رتوش. هنا وعند هذا المنعطف المفصلي يمكننا الحديث عن أمكانية حصول (مصالحة) مع الماضي، وامتلاك قدرة التعايش مع (النسيان). أما بغير هذا الدرب الوعر والمضني، فلن يكون أمامنا سبيل آخر سوى المزيد من زراعة الخراب الاقتصادي، وحصاد الدمار الاجتماعي، وجني الانحطاط الحضاري.

***

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم