قضايا
مجيدة محمدي: المثقف العربي بين الغياب والتغييب

قراءة في راهنية القضايا الحارقة
مقدمة: لم يكن المثقف العربي يومًا عنصرًا هامشيًا في التاريخ الثقافي والسياسي العربي، بل ظلّ – منذ النهضة الحديثة – لاعبًا محوريًا في صوغ الوعي، وتفكيك البُنى التقليدية، ومساءلة السائد والموروث. غير أن المرحلة الراهنة، بما تحمله من أزمات مركبة وتشظيات سياسية وأخلاقية وفكرية، تطرح بإلحاح سؤالًا مربكًا: أين هو المثقف العربي اليوم؟ هل هو غائب، أم مُغَيَّب؟ وهل ما يحدث هو تغييب قسري بفعل الاستبداد والهشاشة المؤسساتية، أم هو انسحاب اختياري بفعل الانتهاك الرمزي لوظيفة المثقف؟ في ظل هذا السياق، يصبح من الضروري التوقف عند مفهوم المثقف، والوقوف على سيرورته في المجال العربي، واستكشاف تجليات الغياب والتغييب في تعامله مع القضايا الحارقة.
أولًا: المثقف العربي ومأزق التعريف بين غرامشي وسعيد
يُعدّ مفهوم "المثقف" مفهومًا إشكاليًا، متعدد الأوجه، يتراوح بين الدور الاجتماعي والتحليل الفكري والالتزام السياسي. وقد قدّم أنطونيو غرامشي تعريفًا مركزيًا للمثقف باعتباره "ذلك الذي يُنتج ويُعيد إنتاج المعاني، ويُوجه الرؤية الجماعية للمجتمع" (غرامشي، دفاتر السجن). وهو ليس محايدًا، بل منحاز بطبعه، إذ أن لكل طبقة مثقفيها الذين يعبرون عن رؤاها وتطلعاتها.
أما إدوارد سعيد، فقد وسّع هذا التصور، معتبرًا أن المثقف هو "منفي رمزي"، يعيش دائمًا على هامش السلطة، في صراع مع المؤسسة، ومرتبط أخلاقيًا بكشف الزيف وتحدي الرواية الرسمية (سعيد، تمثيلات المثقف).
من هذين التعريفين، يمكننا استنتاج أن المثقف، بطبيعته، كائنٌ صراعي، يحتل موقعًا وسطًا بين المعرفة والسلطة، وأن أي حياد يتخذه تجاه القضايا الحارقة هو نكوص أخلاقي واختلال في وظيفة الوعي.
ثانيًا: بين الغياب والتغييب – بنية السؤال الإشكالي
ينبغي التفريق بين الغياب بوصفه فعلًا إراديًا، والتغييب باعتباره ممارسة قسرية. في السياق العربي، غالبًا ما تتشابك الحالتان في بنية واحدة، إذ يُغَيَّب المثقف بفعل المنظومات القمعية، لكنه أيضًا يغيب بفعل انزياحه نحو النخبوية أو الارتهان لمصالح شخصية أو أيديولوجية.
1- التغييب المؤسسي:
تعرضت النخب الثقافية العربية منذ خمسينيات القرن الماضي لحملات ممنهجة من الإقصاء والتدجين، في ظل صعود الأنظمة الشمولية التي عمدت إلى إعادة إنتاج المثقف السلطوي أو "الموظف الأيديولوجي"، كما يسميه عبد الله العروي. تم ذلك من خلال:
احتكار المؤسسات الثقافية من طرف الدولة.
فرض رقابة صارمة على النشر والبحث.
تحويل اتحادات الكتّاب إلى أدوات تضبط الإبداع بدلًا من أن تحرره.
وقد أفضى ذلك إلى اختفاء دور المثقف النقدي المستقل، وتحوّله إما إلى ناطق باسم السلطة أو إلى منفيّ خارج حدود الوطن.
2 - الغياب الطوعي:
يقابله نموذج المثقف الذي اختار العزلة أو الانغماس في تنظيرات بعيدة عن الواقع. وهو ما يسميه علي حرب بـ**"المثقف النرجسي"، الذي يشتغل على اللغة أكثر مما يشتغل على الناس، ويعيش في أبراج لغوية عاجية لا يرى منها الجمر المشتعل في الأزقة** (حرب، من نقد النص إلى نقد العقل).
الانفصال عن الواقع، وغياب مشاريع معرفية متجذرة في المجتمع، جعلا الكثير من المثقفين عاجزين عن التأثير في الفضاء العام، وهو ما دفع الجماهير إلى البحث عن بدائل جديدة في الفضاء الرقمي أو في رموز دينية وسياسية.
ثالثًا: القضايا الحارقة والمثقف الغائب/المُغيَّب
أمام التحديات الراهنة – من انهيارات الدولة الوطنية، وصعود الطائفية، وتفاقم القمع، إلى التحولات الرقمية – تظهر الحاجة الماسّة إلى صوت المثقف النقدي. لكن المأساة أن هذا الصوت، في كثير من الأحيان، إما خافت، وإما مفرط في التأويل دون تأثير حقيقي.
1 - فلسطين كقضية معيارية:
منذ نكبة 1948، ظلّت فلسطين مرآة أخلاقية تُقاس بها مواقف المثقف. لكن في العقود الأخيرة، ومع التطبيع الرسمي المتسارع، برز نوع من الصمت المخزي، أو ما سماه عزمي بشارة بـ"التطبيع الثقافي" الذي ينزع سلاح المثقف الرمزي ويحوّله إلى شاهد زور على تصفية القضية.
2 - ثورات الربيع العربي:
تباينت مواقف المثقفين بين مؤيد مشروط، ورافض بدعوى أن "الشعوب غير جاهزة للديمقراطية"، وهي حجة تنضح بوصاية نخبوية. وكشف الربيع العربي عن افتقار كثير من المثقفين إلى تصوّر سياسي بديل، وانحيازهم إما للأنظمة أو للقوى المضادة للثورة، ما خلق قطيعة نفسية مع الشارع.
3 - العولمة والهوية:
مع صعود قيم السوق والانفتاح الرقمي، برزت تحديات جديدة تتطلب إعادة تعريف الهوية الثقافية العربية. لكن كثيرًا من المثقفين بقوا أسرى ثنائيات تقليدية (أصالة/حداثة، شرق/غرب)، غير قادرين على تفكيك البنية العميقة للعولمة أو تقديم رؤية نقدية متعددة المستويات.
رابعًا: المثقف الجديد – ملامح مشروع بديل
لا يكفي توصيف العطب، بل لا بد من بلورة مشروع بديل يعيد الاعتبار للمثقف كفاعل تاريخي. يمكن الحديث هنا عن "المثقف الشبكي" أو "الناشط المعرفي"، الذي يشتبك مع قضايا عصره بأدوات جديدة، دون أن يتخلى عن جذوة النقد.
1- الارتباط العضوي بالمجتمع:
أن يعود المثقف إلى التفكير من داخل المجتمع، لا من فوقه، فينخرط في الحوارات الشعبية، ويعيد الاعتبار للثقافة كفعل جماعي وليس مجرد منتج نخبة.
2 - عابري التخصصات:
المثقف الجديد ينبغي أن يكون عابرًا للتخصصات، قادرًا على الربط بين السياسة والتاريخ، الأدب والاقتصاد، الفلسفة والتكنولوجيا. النموذج ليس "الأكاديمي المنعزل"، بل "المثقف المشتبك" كما في تجربة طارق علي أو فواز طرابلسي.
3- تكسير الحواجز المؤسسية:
عليه أن يعيد بناء منابره خارج الرقابة الرسمية، مستفيدًا من أدوات النشر الرقمي، وبناء دوائر تأثير مستقلة، من خلال البودكاست، اليوتيوب، والملتقيات الفكرية المستقلة.
خاتمة: نحو استعادة المعنى
المثقف العربي لا يزال موجودًا، لكنه – في الغالب – مُبعثر، مقموع، أو غائبٌ داخل متاهات الخطاب والجدل العقيم. غير أن التحولات العميقة التي يشهدها العالم العربي تفرض عليه العودة، لا كخطيب منبر، بل كضوء خافت في الزوايا المظلمة، يوقظ الأسئلة بدلًا من أن يردد الإجابات الجاهزة.
إن اللحظة التاريخية التي نعيشها تطلب مثقفًا لا يخشى السير ضد التيار، ولا يطمح لرضا السلطة أو الجماهير، بل يطلب الحقيقة في تضاريس الخراب.
فهل يستيقظ المثقف العربي من سباته، أم نكتب له مرثية أخرى على جدار المدن المنهكة؟
***
مجيدة محمدي ـ تونس
......................
المراجع:
غرامشي، أنطونيو. دفاتر السجن. ترجمة: فواز طرابلسي، بيروت: دار الفارابي.
سعيد، إدوارد. تمثيلات المثقف. ترجمة: ثائر ديب، بيروت: دار الآداب.
حرب، علي. من نقد النص إلى نقد العقل. بيروت: المركز الثقافي العربي.
العروي، عبد الله. الأيديولوجيا العربية المعاصرة. بيروت: المركز الثقافي العربي.
بشارة، عزمي. أن تكون عربيًا في أيامنا. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
طرابلسي، فواز. تاريخ لبنان الحديث. بيروت: دار الساقي.
الجابري، محمد عابد. الخطاب العربي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.