قضايا

علي حسين: كيف يمكن ان تُصبح سبينوزياً؟

في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة يقول سبينوزا: " ليس هناك وسيلة أكثر فعالية لحكم الجماهير من الخرافات. السبب الذي يؤدي إلى الخرافات ويحافظ عليها ويشجعها هو الخوف..إن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، إن العقل هو أساس الإيمان فإن غاب ظهرت الخرافة وإذا سادت الخرافة ضاع العقل "

يكتب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه لحظة أخرى أيضاً: " إن سبينوزا هو رائد الفهم " لا تضحك، لا تبك، لا تكره، عليك أن تفهم ". يؤكد سبينوزا ان الدين يجب أن يخضع للقوانين العامة، فحرية التفكير والرأي أمر مفيد، انها شرط لإنهاء النزعات الدينية " لا أحد بامكانه التخلي عن حرية التفكير، فكل سيد على افكاره ".

وترى ريبيكا غولدشتاين في كتابها خيانة سبينوزا " إن الافتراءات الخادعة للذات تنبع من نقطتي الضعف هاتين في طبيعتنا البشرية - وهما التعظيم الذاتي ورهاب الموت، وكلاهما جوانب من عقلنا المخيف وغير القابل للشفاء - التي تفسر القوة المخيفة لأشكال الدين الخرافية ". كما يلاحظ سبينوزا في مقدمة كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة): ".. إنه الخوف، إذن، فهو الذي يلد الخرافة ويحفظها ويعززها ".

ويكتب جاستن شتاينبيرغ في كتابه سبينوزا: " يريد سبينوزا أن يثبت أن الإيمان والعقل ليسا في صراع، فإن ما يظهره في الواقع هو أن الكتاب المقدس هو مستودع للحكايات والمبادئ الأخلاقية. وبما ان الحقائق الأخلاقية للكتاب المقدس واضحة مباشرة لجميع القراء، فلا يوجد حاجة لطائفة كهنوتية ضليعة في فنون التأويل لتفسير مزاعم النص للجماهير ".1582 Spinoza

وفي كتابه" سبينوزا كيف نحيا وكيف نموت " يؤكد ستيفن نادلر ان سبينوزا يصر على ان " الذين يقودهم العقل، لا يرغبون في شيء لانفسهم إلا ويرغبونه لغيرهم، ولذلك فهم عادلون وحسنو النية ونزهاء ". الانسان الحر ايضا مبتهج، ولطيف، ومتسامح. وهو، في مزاجه، ليس عرضة للعديد من احوال النفس التي تشكل مصدرا للصراع بين الاشخاص:  الكراهية، والحسد، والاستهزاء، والإزدراء، والغضب، والانتقام، وغير ذلك من الانفعالات الضارة.

في روايته مشكلة سبينوزا يفدم لنا عالم النفس الشهير إرفين د. يالوم هذا الحوار: قال سبيتوزا: لو بحثت في العالم كله فلن تجد قوماً أو ديناً لا يؤمن بالخرافات، فما دام هناك جهل، فإن البعض سيتمسكون بالخرافات، إن التخلص من الجهل هو الحل الوحيد.

فاجاب بنتو " أشعر انّها معركة خاسرة، فالجهل والإيمان بالخرافات ينتشران كالنار في الهشيم، وأعتقد أنّ رجال الدين يغذون هذه النار ليضمنوا مراكزهم. ولهذا أصبحت على قناعة بأنني يجب أن أكون حراً.وإذا لم تكن تلك الطائفة موجودة، فعليّ أن أعيش دون طائفة "

يطرح الفيلسوف الفرنسي المعاصر فريدريك لونوار في كتابه المعجزة السبيونزية سؤالا: " كيف يمكن للفرد العادي، أن يكون سبينوزيا، حتى لو لم يكن مختصا في الدراسات الفلسفية ؟ أو كيف يستطيع الإنسان أن يتسلح برؤية سبينوزا وفلسفته في الحياة، ويرى في كتابه " المعجزة السبينوزية "، ان فيلسوفنا يحاول من خلال كتبه أن يقدم لنا " أفضلَ طريق ممكن إلى الخلاص، لكل أفراد المجتمع في هذا العالم الذي يقف على حافة الانهيار، إذ تهتز الديمقراطيات العريقة، وتنتشر النزاعات الطائفية ونزاعات الهوية والحزبية في كل أرجاء العالم". يخبرنا لونوار أن رسالة سبينوزا الفلسفية تبرز من خلال رحلته الحياتية: " فإذا أردنا أن نعرف معنى المعجزة السبينوزية، يكفي أن ندرك أننا أمام شخص له سمات خاصة، شخص ظل وفيا لحب الحقيقة، مفضلا حرية التفكيرِ على طمأنينةِ العائلة والطائفة، وعلى الاِنسياق للفكرِ السائدِ. لقد كانَ ضحية أبشعِ الانتهاكات، تم التنكر له من قبل أَهله وعاشَ تحْت التهديد المتواصل، ولكنه بقي وفيا دائما للخط الموجه لمسيرته. كان عُرضة للكراهية ولكنه لم يكره أبدا. تعرضَ للغدرِ ولكنه لم يغدر أَدا. تَعرضَ للسخريَة ولكنه لم يستخف بأحد قط. تم شتمه، ولكن رده كان دائما هو الاحترام. عاش دائما باعتدال وكرامة وفي انسجام مع أفكاره".

وفي واحدة من رسائله يكتب باروح سبينوزا: " لقد اعتبرتُ الإيمان بالمعجزات والجهل امرين متماثلين، لسبب ممفاده ان اولئك الذين يزعمون اثبات وجود الله والذين يستندون الى المعجزات إنما يثبتون شيئا غامضا بشيء اكثر غموضا، ناهيك بكونهم يجهلونه جهلا تاما.

كان سبينوزا يصر انه من دون الذكاء لا توجد حياة عقلية، لذا، فإن الاشياء تكون خيرة فقط بقدر ما تساعد الإنسان على تمتعه بالحياة الفكرية التي يحددها الذكاء. وعلى العكس من ذلك فأياً كانت الاشياء التي تعوق كمال عقل الإنسان وقدرته على الاستمتاع بالحياة العقلانية، فإنها تكون الشر بعينه.

وختامنا مع المفكر العربي فؤاد زكريا وكتابه الشهير إسبينوزا حيث يكتب: " الرأي الحقيقي الذي يؤمن به اسپينوزا في هذا الصدد هو الرأي القائل إننا إذا شئنا أن نهتدي إلى دليل على القدرة الإلهية، وأن نكون متسقين مع أنفسنا في الوقت ذاته، فلدينا في عقلنا البشري نفسه أعظم دليل. فليس ثمة داعٍ لافتراض معرفة غير مألوفة، خارجة على قوانين الطبيعة، لتكون هي مظهر هذه القدرة الإلهية. بل إن عقلنا ذاته معجزة، وكفاحنا من أجل فهم الطبيعة والسيطرة عليها معجزة، ولا معنى — في نظره — لافتراض معجزات ونبوءات تتحدى العقل وتخرج عن نطاق الطبيعة من أجل إثبات هذه القدرة ".

خلال رحلتي مع سبينوزا وكتبه وماكتب عنه تعلمت ان التفكير حاجة ضرورية، وان السير على دروب الحقيقة لذة عقلية كبرى، وأن الفكر هو الذي ينقل الانسان من مستوى " الهمجية " الى مستوى الانسانية ". يكتب الفرنسي العظيم باسكال: " انني استطيع ان اتصور انسانا بلا يدين، او بلا رجلين، لكنني لا استطيع ان اتصور انسانا بلا فكر، لانه عندئذ سيكون مجرد صخرة ".، وتعلمت من هذا الصديق ان الحق فوق القسوة، وان التسامح والرغبة في الحوار مع الآخرين هي الطريق الى الحرية، وان الشر يقوم على التعصب وضيق الافق، والجهل، وان اختلاف الآراء ليس شرا، بل منفعة للجميع، وان الحوار هو الذي يخلق مجتمعا مستنيرا واعيا. وان مهمة المثقف ان يحارب السذاجة، وان نضع جميع ارائنا الى البحث والحوار، حتى يتسنى لنا بناء مجتمعنا على دعائم يقرها العقل، تنتقل بالناس من عهد " الجهل " الى عهد " التفكير "..

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية.

............................

* الصورة (بيت سبينوزا في ضاحية أمستردام)

 

في المثقف اليوم