قضايا
خالد اليماني: اللغة بين الإنسان والمقدّس

تُعدّ اللغة من أعمق الأدوات التي تتشكّل عبرها رؤيتنا للعالم، لا سيما في الفضاءات الميتافيزيقية والدينية. إنّها قناةً ناقلةً للمعنى ونسقًا معرفيًّا يُعيد إنتاج الواقع وفق حدود مفاهيمية تضبط تصنيفنا له وتوجّه إدراكنا لمراميه. ومن هذا المنطلق، يرتبط الدين باللغة ارتباطًا وثيقًا يتجاوز مستوى التعبير إلى مستوى التكوين المفهومي. فالمصطلحات الدينية، التي قد تبدو تسمياتٍ لحالات ميتافيزيقية، تنطوي في بنيتها اللغوية على تصور للعالم وطبيعة الإله والعلاقة بين الإنسان والمقدّس.
تُستأنس هذه الرؤية بفرضية «النسبية اللغوية» التي صاغها إدوارد سابير وطوّرها بنيامين لي وورف، حيث يرى الأخير أنّ اللغة تشكّل نظرتنا إلى العالم وتحدد أنماط تفكيرنا وتصوراتنا للعلاقات الكونية. عند تطبيق هذا التصور على الحقول الدينية، نجد أنّ التصوّرات اللاهوتية أو العقائدية تعكس الخصائص البنيوية والدلالية للغة التي تُنتَج فيها.
من خلال مقارنة المفاهيم التأسيسية في الإسلام (الناشئة من العربية) بنظيراتها في الهندوسية (المنبثقة من السنسكريتية)، يتّضح دور اللغة في بناء النظام المفهومي للعقيدة. فالعربية ببنيتها الجذرية الصارمة وميلها للإفراد والتحديد تولّد منطقًا توحيديًّا محكمًا. في المقابل، تتيح السنسكريتية بمرونتها الاشتقاقية وتعدّدها الدلالي نشوء رؤية دينية تقوم على التراتب والتعدّد والتأويل المختلف. وهنا نقصد بالاختلاف الدولوزي، كما يعتقده بوصفه الأصل في الوجود.
مصطلحات الإسلام: الوحدة والتحديد
يُعدّ لفظ الجلالة "الله" مثالاً ومدخلًا مركزيًا لفهم النظام التوحيدي الإسلامي. يتميّز هذا الاسم في العربية بتركيبه المغلق: فهو غير قابل للجمع أو الاشتقاق أو التأنيث. هذه البنية الدلالية تُضفي على الاسم طابع التفرّد وتقصيه لغويًا عن إمكانيات التعدد أو التشبيه، مما يعكس منطق التوحيد الأصيل. كما يشير جون سعيد إلى أنّ البناء الاشتقاقي للكلمة يُحدّد إدراك معناها ووظيفتها، ويتجلّى ذلك في تصميم لفظ "الله" الذي يُغلق احتمالات التعدد.
يُظهر الجذر العربي (و-ح-د) – المصدر لمفاهيم "واحد" و"أحد" و"توحيد" – كيف توجّه البنية اللغوية المفاهيم نحو الحصر والتفرد. هذه الاشتقاقات تُشكّل نظامًا دلاليًا مغلقًا يحاصر المعنى ويقصي نقيضه (الشرك). فمصطلح "التوحيد" يتجاوز الإيمان بإله واحد ليكون إطارًا شاملًا للعقيدة والسلوك والعلاقات الوجودية، وهو ما أكّده إيزوتسو في تحليله للدلالة القرآنية.
حتى الصفات الإلهية في الإسلام، رغم تنوعها، تُفهم كمظاهر كمالية للذات الواحدة الكاملة ضمن إطار وحداني لا يقبل التجزئة. هذه الصرامة في التحديد تُرسّخ فاصلاً مفهوميًا بين العقيدة الإسلامية والتصورات التعددية للذات الإلهية.
مصطلحات الهندوسية: المرونة والتعددية التأويلية
تنبثق المفاهيم الهندوسية من اللغة السنسكريتية ببنيتها الغنية بالاشتقاق والتعدد الدلالي، مما يُنتج تصورات دينية منفتحة على التأويل والتجليات المتعددة.
يُعبّر مصطلح "براهمان" عن الحقيقة الكونية المطلقة، لكن السنسكريتية تقدّمه عبر نفي متوالي (Neti Neti) واستعارات متقابلة كالقول بأنه "أصغر من الذرة وأكبر من الكون". هذه البنية اللغوية تمنح التصور عمقًا وتُعيد تشكيل العلاقة بين اللغة والمقدّس كأداة للتماهي والتلميح.
أما مصطلح "ديفا" (المُترجم غالبًا كـ"إله") فيحمل في جذره "div" معنى "الإشراق"، مما يفتح مجال تأويله ككائن نوري أو قوة طبيعية أو صفة روحية. هذه السيولة تسمح للهندوسية بتبني تصور تعددي حيث تتجلّى الآلهة (كشيفا وفشنو) في صور متعددة (أفاتارات) كمظاهر للحقيقة المطلقة. وكما تُوضح تمكّن القوة الاشتقاقية للسنسكريتية من بناء نظام ديني تتعايش فيه المستويات الرمزية المتنوعة دون تناقض.
الخاتمة
وعليه يتضح أنّ اللغة تتجاوز حد نشر المفاهيم الدينية كما هي، لتساهم إيجابًا في خلق التصورات وتؤطّرها ضمن بنيتها الدلالية. فالعربية بصيغتها الجذرية المحدّدة تشكّل منطقًا لاهوتيًا قائمًا على التوحيد والصرامة المفاهيمية. بينما توفّر السنسكريتية بمرونتها أفقًا دينيًا يتسم بالتدرّج والتعدد والتجسد.
بهذا تصبح اللغة عنصرًا بنيويًا يُنتج التصوّر الديني ذاته، يتداخل مع الوحي والتاريخ لخلق النسق اللاهوتي. وفهم الدين يستلزم فهم لغته التأسيسية، لأنّ الكلمة هنا مادته التكوينية.
***
خالد اليماني
......................
المصادر
إيزوتسو، توشيهيكو. (1964). الله والإنسان في القرآن: دلالة الرؤية القرآنية للعالم
وورف، بنيامين اي. (1956). اللغة، الفكر والواقع
هولدريج، باربرا. (1997). الفيدا السنسكريتية وقوة اللغة
سعيد جون (2023). علم الدلالة
ليبنر، يوليوس. (2010). الهندوس: معتقداتهم وممارساتهم الدينية