قضايا

خالد اليماني: سوانح فلسفية (2)

ممَّا يثير التأمل أنَّ جلّ ما كُتب بجهد عظيم من الفلاسفة والعلماء قد لا يُقرأ أو يُفهم؛ فالقراءة لا تقل أهمية عن التأليف، إذ إن غيابها يجعلنا نعيد إنتاج الأفكار ذاتها بمفاهيم وأساليب مختلفة، دون وعي. والقراءة هنا بمدلولها الأعم: التأمّل والمطالعة في الذات والمجتمع والعالم.

على إدراكنا بالكمّ الهائل من الإنتاج المعرفي والفني الإنساني في التاريخ، أن يجعلنا أكثر تواضعًا وتلمذةً تجاه هذا الإرث، فلو عُمرنا ألف سنة لما فرغنا من مطالعته والتبصُّر فيه بأعين متجدده تطمع في الفِهم: الفهم الذي يُدرك مقولة الزمان أساسًا وبنيةً له…

وعلى القراءات والتأملات أن تحمل معها طابع الأبدية، وتتسع وسع الوجود، التأمُّل في المعارف البشرية قيمٌ، لكنه وبلا أدنى شك وليدٌ للبحر والجبل والشجرة؛ كوننا نحن العالم يختبر نفسه لأول مرة!

عندما يُصبح كُلُّ الوجود المكتبة التي نتأمل من خلالها ونتبصر حقيقتنا التي هي: أننا نحن هاهنا في العالم و الأبد في هذه اللحظة السرمديّة؛ حينها تتحول فهومنا للتراث الثقافي الإنساني إلى فهومٍ عمومية لا خصوصية، أي أننا نرى في كل أوجه الثقافة البشرية طابع الطبيعة ذاتها، التي تتجسد في الاختلاف والتصيُّر والتّزمن… 

كون التجربة الوجودية في المقام الأول تجربة علائقية أساسًا، على حسِّنا السوي أن يعي تمام الوعي أننا جزءٌ من كل شيء آخر، لا كمكملات له، أو تنوع فيه، إنما بمشاركتنا في الجوهر والمنبع والأصل الذي هو الزمن والحركة والصيرورة.

ومن باب الأنانية الرقيقة أن نقرأ أكثر مما نكتب، وأن نُبصِر أكثر مما نرى، وأن نصغي أكثر مما نسمع، وأن نرقص أكثر من خوفنا من العالم، وأن تكون كتابتنا شكلًا من أشكال القراءة، التي لا طابع لها ولا أصل، لا جنس ولا شكل، إنما تعبيرًا مجردًا عن الكينونة، وهذا هو منبع الابتكار، الذي هو الطبيعة ذاتها، عندما تكون كل الموجودات على سجيتها دون تكلف أو اكتراث.

ينبغي لِحكمتِنا أولًا أن تُقرَّ بأن هناك ما يكفي للتأمل فيه والاستغراق، من نتاج الإنسان البشري الثقافي: الفن والأدب والفلسفة والعلم، والأهم أن نردَّها إلى أمها الأرض، أي الطبيعة، أي الوجود.

***

خالد اليماني

 

في المثقف اليوم