قضايا
هدى لحكيم بناني: من لعنة الطائفية إلى نعمة التنوع

نحو عقد اجتماعي جديد في المجتمعات العربية
رغم مرور أكثر من قرن على تشكُّل الدولة الوطنية الحديثة في العالم العربي، لا تزال الطائفية تشكّل أحد أخطر التحديات البنيوية التي تُقوِّض أسس المجتمعات الحديثة. فالطائفية ليست مجرد انتماء ديني أو مذهبي، بل هي اختزال معقّد للهوية الإنسانية وتحويلها إلى أداة للصراع السياسي والاجتماعي. إنها آلية نفسية واجتماعية تعيد تشكيل الولاءات من الانتماء إلى الوطن الجامع، إلى الولاء للطائفة أو العرق أو المذهب، مما يؤدي إلى انقسام المجتمع إلى كيانات متقوقعة تعيش في حالة ريبة متبادلة.
إن أخطر ما في الطائفية أنها تُنتج "عقلاً طائفياً"، لا يرى العالم إلا من خلال ثنائية "نحن" و"هم"، وتحوّل التعددية إلى تهديد وجودي. وهذا العقل يُفرز سرديات مغلقة، تعيد إنتاج الكراهية وتنزع عن الآخر المختلف صفته الإنسانية، فيتم تشييئه أو تجريده من حقوقه الأساسية، بل حتى من أهليته للعيش المشترك.
تتغذى الطائفية على الخوف، وتقوم على منطق الحصار، حيث يُزرع في وعي الجماعة أنها مهددة، وأن بقاءها لا يتحقق إلا بعزل نفسها أو بالهيمنة على غيرها. وهكذا تصبح الطائفة دولة داخل الدولة، والمواطنة مقسّمة على أسس طائفية ومذهبية، لا على أساس الانتماء الوطني الواحد.
لقد أنتجت هذه العقلية، عبر العقود، أنظمة سياسية مريضة بالمحاصصة، تعيد إنتاج الفساد والتمييز، وتضعف المؤسسات العامة لصالح الولاءات الضيقة. وفي ظل هذا المناخ، لا يعود القانون هو الحَكَم، بل تصبح الزبونية الطائفية هي مفتاح الحصول على الحقوق أو المناصب أو حتى الحماية الأمنية. وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام انهيار الثقة بين المواطنين والدولة، بل بين المواطنين أنفسهم.
ولا يقتصر خطر الطائفية على تآكل مؤسسات الدولة فقط، بل يتعدى ذلك إلى تهديد السلم الأهلي، إذ تصبح أي أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية مرشحة لأن تتحول إلى فتيل صراع طائفي. يكفي إشعال خطاب تحريضي واحد حتى تنفجر الأوضاع، كما شهدنا في أكثر من بلد عربي، حيث تحوّلت مدن وبلدات بأكملها إلى خطوط تماس مذهبية، وسقط الآلاف ضحايا صراعات لا علاقة لها بالمطالب الاجتماعية الحقيقية.
إن ما يزيد من مأساوية المشهد هو تجاهل التاريخ العربي الطويل الذي أثبت أن التعدد الديني والإثني يمكن أن يكون مصدر قوة حضارية. لقد عرفت الدولة العباسية، في فترات ازدهارها، تعايشًا حقيقيًا بين المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة، وكانت بغداد في القرن الرابع الهجري منارة علمية استوعبت الألسن والأديان والمذاهب. وفي الأندلس، شكّلت العلاقة بين المسلمين واليهود والمسيحيين نموذجًا للتفاعل الإبداعي، حيث أسهم الجميع في العلوم والفنون والآداب. حتى في العصر الحديث، كانت بيروت، في منتصف القرن العشرين، حاضنة لصحافة وفكر وحركات ثقافية شارك فيها مثقفون من مختلف الطوائف دون أن يُختزلوا في هوياتهم الدينية.
هذا السياق يؤكد أن الطائفية ليست قدرًا حتميًا، بل ظاهرة مصطنعة تُنتجها بنى سياسية محددة، وتتغذى على خطاب متعمَّد يُعيد تفسير التعدد باعتباره مصدر تهديد، لا موردًا ثقافيًا وإنسانيًا.
لا يمكن فهم الطائفية دون تحميل المسؤولية للفاعلين الذين أنتجوها واستثمروها. فالعديد من الأنظمة العربية، خصوصًا بعد الاستقلال، اعتمدت على سياسات "فرّق تسد" لضمان البقاء في السلطة، فعمّقت الانقسامات المذهبية والعرقية، وخلقت موازنات طائفية هشّة داخل مؤسسات الدولة. بدلًا من بناء دولة المواطنة، تم تصنيع "دولة الطوائف"، حيث يُقاس الولاء للسلطة بالانتماء، لا بالكفاءة أو النزاهة.
ولم تكن بعض النخب الدينية أقل تورطًا. إذ استُخدمت المنابر الدينية – أحيانًا بشكل مباشر وأحيانًا عبر الإيحاء – لترسيخ مشاعر التمييز والعداء، وغُذِّيَ الخطاب الطائفي في مواجهة الدعوات إلى التغيير أو المساواة. وقد تماهت بعض القيادات الدينية مع السلطات السياسية، وشكّلت غطاءً شرعيًا لاستمرار منطق الفرز الطائفي ورفض الانفتاح على الآخر. وهكذا، تحوّل الدين من منظومة قيم إنسانية جامعة إلى "حدّ فاصل" بين جماعات متنازعة.
الطائفية أيضًا تُضعف مناعة المجتمعات تجاه التدخلات الخارجية. فحين يتشرذم الشعب إلى طوائف متصارعة، تصبح الدولة هشّة، وتغدو الطوائف أدوات في يد القوى الإقليمية والدولية التي تبحث عن وكلاء يخدمون مصالحها. وهكذا تفقد الدولة استقلال قرارها، وتتحول إلى ساحة تصفية حسابات بين قوى لا يعنيها استقرار شعوبنا بقدر ما يعنيها تعظيم نفوذها.
ولعل أكثر ما يجعل الطائفية خطيرة أنها تزرع الكراهية في النفوس عبر الأجيال، فتنشأ أجيال جديدة على مشاعر الريبة والخوف من الآخر، وتنعدم فرص التواصل أو التفاهم. وهنا تتجاوز الطائفية حدود السياسة لتصبح أزمة عميقة في البنية الثقافية والأخلاقية والاجتماعية. إنها تقطع سبل المصالحة، وتمنع المجتمعات من تجاوز جراحها، وتبقيها رهينة لذاكرة النزاعات والانقسامات.
لكن ما يغيب عن كثير من النقاشات هو أن المجتمعات العربية لم تكن يومًا أحادية، بل هي من أكثر مجتمعات العالم ثراءً بالتنوع الديني واللغوي والعرقي. لقد عاش العرب قرونًا من التفاعل الحضاري بين المسلمين والمسيحيين واليهود، بين العرب والأمازيغ والأكراد والتركمان والأشوريين والسريان... وقد كانت هذه الفسيفساء عامل إثراء ثقافي واجتماعي واقتصادي حين كانت تُدار بروح التسامح والاعتراف المتبادل.
من هنا، فإن التحدي الحقيقي ليس في "وجود" الطوائف، بل في "تطييف" الدولة والمجتمع. الطوائف جزء طبيعي من التكوين المجتمعي، لكن تحويلها إلى كيانات سياسية مغلقة هو ما يهدد الاستقرار.
الحل يبدأ من إعادة الاعتبار لفكرة المواطنة الجامعة، التي لا تُفرّق بين الناس على أساس الدين أو العرق، بل تساوي بينهم في الحقوق والواجبات. وهذا يتطلب إصلاحًا جذريًا في بنية الدولة، وفي الثقافة السياسية، وفي التعليم، والإعلام، والخطاب الديني. يجب أن يُعاد تعريف الوطن بوصفه بيتًا مشتركًا، لا غنيمة تتقاسمها الطوائف.
كما يجب أن يُعاد بناء الثقة بين مكونات المجتمع، عبر برامج للعدالة الاجتماعية، ومصالحة وطنية حقيقية، ومبادرات حوار تعترف بالجروح وتعمل على معالجتها، لا طمسها أو توظيفها. كذلك لا بد من تمكين المؤسسات المدنية، وتحصينها ضد الاختراقات الطائفية، وجعلها منصات للتفاعل بين مكونات المجتمع المختلفة.
إن مجتمعاتنا العربية لا يمكن أن تنهض وهي رهينة هويات قاتلة. لا تنمية في ظل الطائفية، ولا ديمقراطية مع الطائفية، ولا استقرار دون تجاوز الطائفية. وحدها الدولة المدنية العادلة، التي تحتضن كل مكوناتها بلا تمييز، هي القادرة على تحويل هذا التنوع إلى قوة ناعمة تنهض بالمجتمع بأكمله.
إننا أمام لحظة مفصلية: إما أن نعيد صياغة علاقتنا ببعضنا البعض على أسس الاحترام والعدالة والاعتراف، أو نستمر في الدوران داخل حلقة مفرغة من الشك والكراهية والانقسام. والطريق واضح، وإن كان شاقًا: بناء عقد اجتماعي جديد يؤسس لوطن لا يذوب فيه أحد، ولا يُقصى منه أحد.
***
د. هدى لحكيم بناني