قضايا
سلوى بن أحمد: الدّين والعصر.. صراع أم تكامل؟

مقدّمة: إنّ العلاقة بين الدّين والعصر علاقة معقّدة وديناميكيّة، تتأثّر بعوامل تاريخيّة واجتماعيّة وثقافيّة متعدّدة، حيث يمثّل الدّين، بقيمه وتشريعاته، إطارا مرجعيّا للإنسان المسلم المعاصر، بينما يمثّل العصر بكلّ ما فيه من تطوّرات علميّة وتقنيّة وحضاريّة، تحدّيا يفرض على الدّين التّجديد والاجتهاد في الفهم والتّطبيق، فالتّقدم العلمي والتّكنولوجي الكبير في مجالات حسّاسة مثل علم الأحياء والفيزياء الفلكيّة يقدم تفسيرات للعالم تختلف عن تلك التّي تقدمها التّفسيرات التّقليديّة للنّصوص الدّينية، ومن جهة أخرى فالعولمة وتزايد التّواصل بين الثّقافات المختلفة تُفضي إلى ظهور وجهات نظر متعدّدة ومتنوعة حول القضايا الأخلاقيّة والدّينيّة، ممّا قد يُثير التّساؤلات حول صحّة المعتقدات الرّاسخة، إضافة إلى ذلك، تُثير قضايا مثل الحقوق المدنيّة، وحقوق المرأة، والمساواة الاجتماعيّة نقاشات حادة حول تفسير النّصوص الدّينية وتطبيقها في سياقات عصريّة.
ويرى البعض تضاربا حتميّا بين القيم الدّينية الثّابتة ومتغيّرات العصر السّريعة، وفي المقابل يؤكد البعض الآخر على إمكانيّة التّكامل والانسجام بينهما، فهل نحن أمام صراع لا مفر منه، أم أنّ التوفيق بين الدّين والعصر ممكن بل وضروري لبناء مستقبل أفضل؟
- الدّين والتّحدّيات:
يواجه الدّين في العصر الحديث تحدّيات كبيرة، أبرزها:
- العلمانيّة:
صعود العلمانيّة وتأثيرها على المجتمعات، ممّا أدى إلى فصل الدّين عن الدّولة في العديد من البلدان، وتقليص دور الدّين في الحياة العامّة.
- الحداثة:
ارتبطت الحداثة بتغيّرات اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة كبيرة، مثل الثّورة السّياسيّة والعلميّة والصّناعيّة خاصّة التّي أدّت إلى التّطوّرات العلميّة والتّكنولوجيّة التّي غيّرت نظرة الإنسان إلى العالم، وأثارت تساؤلات حول العلاقة بين الدّين والعلم.
- العولمة:
حيث يشهد العالم انفتاحا غير مسبوق على العديد من الثّقافات الأخرى، هذا الانفتاح يطرح تساؤلات حول قدرة الثّقافة العربيّة على الحفاظ على هويّتها الثّقافية في مواجهة المد العولمي المتدفّق، الذّي يسعى إلى إذابة الفوارق الثّقافية في قالب واحد.
- التّطرّف:
ظهور حركات متطرّفة تستغل الدّين لتبرير العنف والإرهاب، ممّا أدّى إلى تشويه صورة الإسلام، فالتّطرّف الدّيني هو ظاهرة معقّدة ومتعدّدة الأوجه، تتجلّى في تبني أفكار وسلوكيّات متطرّفة مرتبطة بالدّين، ممّا يؤدي إلى العنف والإرهاب.
في المقابل، يوفّر العصر الحديث فرصًا للدّين، منها:
- التّواصل:
سهولة التّواصل عبر الإنترنت ووسائل الإعلام، ممّا يتيح للدّين الانتشار والتّأثير في المجتمعات.
- الحوار:
إمكانية الحوار والتّفاعل مع الثّقافات والأديان الأخرى، ممّا يعزز التّفاهم والتّعايش السلمي.
- التّجديد:
الحاجة إلى تجديد الفكر الدّيني والاجتهاد في فهم النّصوص وتطبيقها على الواقع المعاصر.
- الإصلاح:
فرصة لإصلاح المجتمعات الإسلاميّة وتطويرها، من خلال تطبيق قيم الإسلام في مجالات الحياة المختلفة.
- التّجديد والاجتهاد
التّجديد والاجتهاد هما مفتاحان أساسيّان لفهم العلاقة بين الدّين والعصر، فالتّجديد ليس مجرد تغيير في الأساليب والوسائل، بل هو تجديد في الرؤى والاستيعابات الدّينية، بحيث يهدف إلى تجاوز الأنماط التّفسيرية التّي تبعد الإنسان عن الالتزام بقيم الدّين وتشريعاته، والاجتهاد هو بذل الجهد في استنباط الأحكام الشّرعية من مصادرها الأصليّة، مع مراعاة الواقع المعاصر ومتطلباته.
الإسلام دين ودولة؟
شعار "الإسلام دين ودولة" أثار جدلا واسعا، ويرى البعض أن هذا الشّعار حديث، نشأ مع تجربة التّحديث والاندماج في النّظام العالمي الحديث، ويرتبط بالإسلام السياسي، بينما يرى آخرون خاصة من التّيّار الإسلامي السّياسي، أنّ هذا الشّعار أصيل، وأنّ الجديد هو في المنطوق فقط .
- دور الدّين في الحياة:
يلبيّ الدّين حاجات المجتمع العاطفيّة والفكريّة والماديّة، ويجيب عن أسئلة العصر من جهة أخرى، ففي ظلّ التّقدم السّريع والتّحولات الاجتماعيّة المتسارعة، يُمكن للدّين أن يُوفر إطارا أخلاقيّا قويّا، يُساعد الأفراد على مواجهة الضّغوط النّفسيّة والاجتماعيّة، ويُشجعهم على التّضامن والتّعاون، كما يُمكن له أن يُسهم في تعزيز القيم الإنسانيّة الأساسيّة، مثل العدالة والرّحمة والتّسامح، مما يُساعد على بناء مجتمعاتٍ أكثر تماسكا.
أضف إلى ذلك، أنّ التّفسيرات الحديثة للنّصوص الدّينية تُحاول التّوفيق بين القيم الدّينيّة الثّابتة ومتطلّبات العصر، من خلال التّأكيد على جوهر الرّسالة الدّينية وتكييف تطبيقها مع السّياقات المفروضة.
- تحقيق التّوازن بين الدّين والعصر:
وذلك يتطلّب:
- الفهم الصّحيح للدّين: أي فهم جوهر الدّين وروحه، والتّمييز بين الثّوابت والمتغيّرات وذلك بالرّجوع إلى المصادر الإسلاميّة الأصيلة لفهم جوهره الذّي يتشكّل منه الإسلام ونموذجه المعرفي.
- الوعي بالواقع: من خلال إدراك التّطورات والتّغيرات التّي يشهدها العالم، والتّفاعل معها بإيجابية، مع الحفاظ على الهويّة.
- التّجديد والاجتهاد: وذلك من خلال تجديد الفكر الدّيني والاجتهاد في فهم النّصوص وتطبيقها على الواقع.
- الوسطيّة والاعتدال: بتجنب الغلوّ والتّطرف، والتّمسك بالوسطيّة والاعتدال، فأساس الإسلام الوسطيّة والتّي تعني العدل والخيريّة، قال تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (البقرة 143).
- التّواصل والحوار: من خلال الانفتاح على الآخرين، والحوار معهم، وتعزيز الّتفاهم والتّعايش السلمي.
غير أنّ التّوفيق بين الدّين والعصر أمرا سهلا في ظاهره صعبا تطبيقيّا، حيث يتطلب حوارا مستمرّا وعميقا بين رجال الدّين والعلماء والمفكرين، مع مراعاة السّياقات الثّقافيّة والاجتماعيّة المختلفة، فالتّعصب الأعمى وغياب الحكمة لأيّ منهما يُؤدي إلى نتائج سلبيّة.
الخلاصة:
إنّ العلاقة بين الدّين والعصر علاقة مستمرة ومتجدّدة، حيث يوفر الدّين للإنسان إطارا مرجعيّا للعيش في الحياة، بينما يمثل العصر تحدّيا يتطلّب التّجديد والاجتهاد في الفهم والتّطبيق، وتحقيق التّوازن بين الدّين والعصر يتطلب فهما صحيحا للدّين ووعيا بالواقع، وتجديدا واجتهادا، ووسطيّة واعتدالا، وتواصلا وحوارا.
***
د. سلوى بن أحمد - تونس