قضايا

مجيدة محمدي: المثقف المستقيل

إن استقالة المثقف من هموم المجتمع وقضاياه ليست استقالةً من مهنة، بل هي استقالةٌ من الوجدان الجمعي، من الالتزام غير المكتوب بأن يكون الوعي حارسًا للأمل، وبأن تكون الكلمة سراجًا في ليالي العتمة. فالاستقالة هنا ليست ورقةً موقّعة تُقدَّم إلى أحد، بل هي انكسارٌ داخلي، تراجع إلى كهف الذات حيث يذوب الحلم في بركةٍ راكدة من المبرّرات والتأويلات المريحة.

المثقف المستقيل يشبه النهر الذي جفّت مياهه لكن ظلّت أمواجه مرسومة على الرمل، يشبه منارةً لا زيت في قنديلها، تظلّ قائمةً بلا ضوء، شاهدةً على زمنٍ كان فيه النور يسيل من حجارتها. كان يمكن له أن يكون جسرًا بين الوعي والفعل، لكنه صار حائطًا مائلًا، يستظلّ به الخائفون من الحرائق.

وفي كتاب التاريخ، سيخرج من المتن سيُقرأ اسمه على الهامش، لن يُذكر بين من وقفوا، ولا بين من سقطوا، بل بين من جلسوا على عتبة الزمن، يراقبون الجموع وهي تُساق إلى مصائرها، ويتذرّعون بالحكمة الزائفة، أن لا جدوى، أن السفينة مثقوبة، وأن البحر ملغوم.

الاستقالة، عند هؤلاء، تُغلف بعباراتٍ أنيقة، "الحياد"، "المسافة النقدية"، "الانصراف إلى الجماليات"، مع ان الجمال بلا عدالةٍ ما هو إلا قناعٌ من حرير يخفي وجه الجثة. فالجمال، في غياب الحق، يتحوّل إلى أفيونٍ للنظر، لا إلى ثورةٍ للبصيرة.

كم من مثقفٍ تحوّل إلى شاعرٍ للقصور لا شاعرٍ للشعوب، وإلى ناقدٍ للألوان في اللوحات بينما الدم ما زال طريًّا على أرصفة الوطن. وكم منهم ارتدى عباءة الفيلسوف ليختبئ من عيون الأطفال الذين يسألون: لماذا تركتمونا في العراء؟

ليس أخطر على الأمة من مثقفٍ كان يُمكنه أن يصرخ، فاختار أن يهمس. كان يستطيع أن يكتب، فآثر أن يصمت. كان قادرًا أن يكون المرآة، لكنه غطّاها بمنديل، كي لا يرى القبح ولا يراه الآخرون. فالاستقالة هنا ليست هروبًا فحسب، بل خيانةٌ رمزيةٌ للمعنى، إذ يتخلى صاحبها عن دوره بوصفه شاهدًا وشريكًا في صياغة المصير.

إن الأمة التي يتساقط مثقفوها في صمتٍ مرفّه، تتعرّى من بوصلة العقل. تتحوّل سفينتها إلى خشبٍ تائه، تمخر به الرياح نحو المجهول. وفي غياب المثقف الملتزم، يعلو صوت التافهين، ويصبح التاريخ ساحةً للغوغاء، والحقائق بضاعةً في سوق الكذب.

لقد قيل: "حين يصمت العقلاء، يتكلم المجانين." أما في زمننا، فالأدهى أن بعض العقلاء صاروا يكتبون للمجانين، ينسجون لهم الخطابات التي تُشرعن العبث، وتمنح الفوضى نياشين البلاغة.

والمثقف المستقيل لا يرحل جسدًا، بل يظلّ في المشهد كظلٍّ باهت، يكتب عن المطر ولا يذكر الغرقى، يغني للورد ولا يذكر الدم، يمدح الشفق ولا يتحدث عن الليل الطويل الذي يليه. إنّه بذلك يُعيد إنتاج الاستبداد في صيغٍ ناعمة، ويكرّس الهزيمة في نصوصٍ مُنمّقة.

لكن، رغم كل هذا، يبقى هناك سؤالٌ يتردّد في الأفق، هل يمكن للمثقف المستقيل أن يعود؟

التاريخ يقول نعم، لكن بشروطٍ قاسية، أن يحرق جدران صمته، أن يطهر قلمه في نهر الحقيقة، أن يعود إلى الناس من برجٍه العاجي، كشاهد وشريكًا في المعاناة. أن يفهم أن الالتزام ليس شعارًا، بل فعلًا يوميًا، وأن الكلمة لا تُنقذ أحدًا ما لم تُكتب بيدٍ مبللة بعرق الكدّ وألم الخسارة وأمل التغيير.

فالأمم لا تموت حين تخسر معاركها، بل حين يسلّم مثقفوها مفاتيح الوعي إلى النسيان. وحين يحدث ذلك، تصبح الكتب مقابر، والمكتبات أضرحة، والأفكار صدى باهتًا في وادٍ منسي.

إن المثقف الذي يختار الصمت أمام قضايا أمته، كالشاعر الذي يمزق القصيدة قبل أن تُقرأ، وكالفارس الذي يبيع سيفه في سوق الخردة. إنّ استقالته ليست فقط خيانةً لجماهيره، بل خيانةٌ لذاته، لقدرته على أن يكون أثرًا في العالم.

ولعلّ أفظع ما يمكن أن يكتبه التاريخ عنه،

"كان يمكن أن يكون، لكنه لم يكن."

***

مجيدة محمدي

في المثقف اليوم