قضايا

وسام العبيدي: صورة المثقف كما رسمها إدوارد سعيد..

في كتابه (الآلهة التي تفشل دائما) أشار الراحل إدوارد سعيد– وهو بصدد حديثه عن مفهوم المثقف العضوي لـ(أنطونيو غرامشي) - إلى تعريف (جوليان بيندا) الشهير للمثقفين بأنهم "جماعة صغيرة من ملوك حكماء يتحلون بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي العالي وقفوا أنفسهم لبناء ضمير الإنسانية" .

يظهر عبر هذا التوصيف الذي ذكره (بيندا) أنّ المثقف يتمتع بموهبة استثنائية تختلف عن الآخرين، إلا أنّ الحديث عن هذه الموهبة قد لا يكون دقيقًا من حيث اكتناه وصفها، وعلى أي حال كيف تكون هذه الموهبة الاستثنائية؟ كلها أسئلة قد لا يضيء الحديثعنها عشرات الكتب والبحوث، وهنا ترتهن اللحظة التاريخية التي تقترب فيها المواقف بما أشار إليه (إدوارد سعيد) في معرض كلامه عن (جوليان بيندا) وتعريفه الذي ذكرناه آنفًا عن الثقافة معقّبا بالقول: "إنّ بحث بيندا – خيانة المثقفين- ظلّ حيًّا عبر أجيال كهجوم لاذعٍ على المثقفين الذين تنازلوا عن دعوتهم وعرضوا مبادئهم للشبهة أكثر من كونه تحليلاً متماسكًا للحياة الفكرية" وفي كلامه تشخيصٌ لظاهرة "المثقف الوصولي" الذي يستعين بما لديه من خبرة أو دراية في تخصصٍّ ما، لا ليكون ذلك التخصص في النهوض بواقع المجتمع الذي يعيش فيه، والتفكير بكيفية الارتقاء بمستوى وعي ذلك المجتمع بما لا يجعله مُدجّنًا يتقبّل أحابيل السلطة الغاشمة وطرائق توطيد أركانها من خلال استعانتهم بمجموعة من المثقّفين في اختصاصات مختلفة لم تكن إلا مُخدّرًا لعامة الناس تُعطي صورةً وهمية عن عدالة السلطة ومدى اهتمامها بالكفاءات، في حين أنّها استعانت بهذه العناوين التي لم تكن سوى واجهة لفسادها المتواري خلف تلك العناوين..! وقد تتنوّع مثل هذه العناوين بتنوّع الأدوار المُناطة بها، فهي قابلة للتلوّن بحسب الفُرص والمهمّات التي تُعطى لها، فيمكن أنْ تجد المُحلِّل السياسي أو الصحفي في دورةٍ من دورات تلك الحكومة، وزيرًا أو مستشارًا في دورةٍ أخرى، وهكذا تتبدّل الأدوار بتبدّل المصالح..!

وقد أورد بيندا أمثلة تبين مصداق فكرته ممن عدّهم المصداق الحقيقي للمثقف الحقيقي، مثل سقراط والمسيح وسيبينوزا، وفولتير، وإرنست رينان من العصر الحديث، فهم بحسب هذه المبادئ التي يناضلون من أجل تثبيتها بين الناس، ولأجل كونهم أناس عبَّروا عن حرية ما اعتنقوه من أفكار "كائنات نادرة جدًّا في الحقيقة، ما دام ما يرفعونه هو القيم الخالدة للحقيقة والعدالة التي هي بدقة ليست من هذا العالم"، فالمبدأ الأخلاقي الذي دفع هؤلاء يمثّل نموذجًا واضحًا عن مفهوم المفكر أو الفيلسوف أو رجل الآداب الذي لا تشغله همومه المعرفية وتأملاته الفلسفية عن الاهتمام بشؤون المدينة والنزول إلى الساحة العمومية صادعًا باسم "الحق" و"العدل" و"الخير" ومدافعًا عن القيم الإنسانية العامة المجردة التي يلخّصها شيشرون في "حب النوع البشري". ولذلك بحسب هذه التوصيفات التي استفادها من "بيندا" رأى سعيد أنَّ المثقف يخون حين يتنازل عن سلطته الأخلاقية التي ينبغي أنْ يتمثّلها عبر سلوكياته المجتمعية فضلاً عن خطابه الذي يُشيع تلك القيم والمبادئ الأخلاقية، وتلك الخيانة تتمثّل بالروح الطائفيّة تارةً، أو استثماره - الشخصي أو الحزبي - المشاعر الجماهيرية التي يعرف كيف يتلاعب بها ويُسخّرها بالاتجاه الذي ينسجم وتوجّهات سلطة جهة سياسيةٍ ما، عبر لغةٍ منمّقة تتّسم بضبطه إنشاء مصطلحات وخطابات يمكن أنْ يدبُّ التضليل في أوردتها لمن لا يُتقن فرز أورامها السرطانية غير الحميدة، حين تكون تلك المشاعر مُضِرّةً بصورةٍ مباشرة أو حتى غير مباشرة في مسخ الهوية الوطنية التي تجمع الفرقاء داخل الوطن الواحد..! وبهذا لا بدَّ من أنْ يكون المثقف – بحسب تصوّر سعيد – رسوليًّا في موقفه ووظيفته التي يؤدّيها في المجتمع، وبحسب قوله: "إذ يُقترض بالمثقفين الحقيقيين، حسب تعريف بندا، تعريض أنفسهم لأخطار الحرق، أو النبذ، أو الصلب. فهم شخصيات بارزة رمزية، متميّزة بابتعادها الراسخ عن الاهتمامات العملية. ولذلك، لا يمكن أنْ يكونوا كثيري العدد، كما أنّ من غير الممكن تنميتهم روتينيًا. عليهم أنْ يكونوا أفرادًا مُدققين، وذي شخصيات جبارة. وأهم من ذلك كله، يجب أنْ يكونوا في حالة معارضة شبه دائمة للوضع الراهن"

ويتّفق أحد فلاسفة الغرب وهو (بارنجتون مور) مع هذه الرؤية للمثقف، فمهمته ليست في الالتزام بأية نظرية سياسية وإنما في البحث عن الحقيقة وإعلانها، وبهذا يكون من واجبه أن يعبّر عن كبت الموقف الراهن وأنْ ينقده، وينوّه بالأوهام وأنواع النفاق التي يتدثر بها أولئك الذين يرفعون شعار الحرية لتدعيم النزعة الوحشية.

ولعله اقترب من توصيفهم درجةً تعبّر عن قناعاتهم التي صدروا عنها، بما يرفعونه من قيم خالدة، فضلاً عن استعدادهم المتواصل في النضال لأجل تثبيت تلك المبادئ؛ فلذا يكونوا أقرب إلى عالم المعنى من عالم المادة، فهم بهذا التوصيف "يسعون إلى مسرّتهم في ممارسة فنّ ما أو علمٍ ما أو تأمّل ميتافيزيقي، باختصار في امتلاك مزايا غير مادية، ولهذا السبب يقولون بطريقةٍ محددة: "مملكتي ليست من هذا العالم".

إنّ رؤية (بيندا) للمثقف تعكس شجبه لمن اتّخذ ثقافته برجًا عاجيًا ينعزل بسببها عن الناس، فالمثقف الحقيقي حين يحركه شعورٌ صادقٌ بالمسؤولية إزاء مجتمعه، فضلاً عن استشعاره النفسي المنبثق عن فطرة سليمة تملي عليه وجوب الانصياع إلى المبادئ النزيهة للعدالة، وفي مقابل ذلك ينبع شعوره الداخلي بشجب الفساد والدفاع عن الذين يقع عليهم طائلته، حتى وإن تحدّوا السلطة غير الشرعية الجائرة عن العدل، يكون المثقف في أفضل حالاته، وهنا يستشهد بيندا ببعض الذين تركوا مواقف عبّرت عن عمق ثقافتهم المتزامنة مع التزامهم المبادئ الصحيحة من دون خشية أن يطالهم الموت، فيقول: "كيف شجب فنيلون وماسيلون حروبًا محددة للويس الرابع عشر؟  كيف أدان فولتير دمار البلاطينيين؟ كيف استنكر رينان أعمال نابليون العنيفة؟ وكيف شجب بكلي تعصب انكلترا اتجاه الثورة الفرنسية؟ وفي زمننا كيف أدان نيتشه ممارسات ألمانيا الوحشية ضد فرنسا".

إنّ رسالة المثقف التي أعلنها (بيندا) شعارًا لابُدّ للمثقف الحقيقي من الالتزام به، هو الثبات على الموقف والتضحية في سبيل ذلك الثبات حتى وإن أودت بهم التضحية إلى الحرق أو النبذ أو الصلب، فهم "شخصيات بارزة رمزية موسومة بنأيها الثابت عن الاهتمامات العملية. [...] يجب أن يكونوا أفرادًا مدققين وذوي شخصيات قوية، وفوق كل شيء، يجب أنْ يكونوا في حالة تضاد مع الوضع القائم على نحو شبه دائم؛ لهذه الأسباب جميعًا".

وقد تساءل إدوارد سعيد عن كيفية حصول هؤلاء الرجال على الحقيقة، فهل كانت بصيرتهم النافذة إلى المبادئ الخالدة مجرد أوهام شخصية كالتي عند دونكيشوت..؟ إلا أنّه لا يختلف معه في أنّ الصورة الحقيقة التي أرادها "بيندا" للمثقف تبقى صورةً جذابة وتفرض نفسها بقوة حتى وإن أظهرته كائنًا منبوذًا إلا أنه قادر على قول الحقيقة للسلطة، وشجاع على نحو خيالي، حيث لا توجد سلطة دنيوية كبيرة ومهيبة جدا لا يمكن أن ينتقدها ويوبّخها بحدة.

***

د. وسام حسين العبيدي

في المثقف اليوم