قضايا

عصمت نصار: مستقبل الفلسفة في مصر

استجابة لرغبة المعنيين والمهتمين والدارسين بالمعارف الفلسفية؛ الذين تعذر حضورهم لندوة شهر مايو التي عقدتها الجمعية الفلسفية المصريّة في مساء يوم الأحد الموافق 11\5\2025م، نقدم لكم أهم ما جاء فيها من اقتراحات نظرية، وبرامج علمية تطبيقية، قد نالت استحسان الحضور في تلك الجلسة التي استفدت من مداخلات المعلقين على ما طرحته، وموافقتهم على بذل كل ما يقدرون عليه لنقل هذه الآراء النظرية والعملية؛ من طور الخطاب المزمع إلى طور المشروع المعد للتطبيق لإنقاذ ثقافتنا من الأزمة التي حاقت بها.

 نعم تلك المحنة التي كانت وراء انزعاجنا وأسفنا على ذلك القرار الجائر الذي قوض الدراسات الفلسفية في المقررات الدراسية بالمرحلة الثانوية، وانعكس ذلك بدوره على أقسام الفلسفة في كل الجامعات المصرية، ذلك القرار الذى كان يحتاج إلى أنات العالم، وحصافة التربوي، وحنكة السياسي، وعقلية المستنير قبل أن يمسك بقلمه من وافق على ذلك القرار الغاشم، الذي حرم شبابنا في هذه المرحلة السنية من المعارف التي تعين عقولهم على التفكر والتدبر، وغربلة الآراء والمعتقدات، والشائعات قبل قبولها والتأثر بمحتواها، ولاسيما في مجتمعنا المصري بخاصة والعربي بعامة، المستهدف من شرار الأغيار الذين يستهدفون تضليل أذهان شبابنا، وإفساد ذوقه وانتزاع الحياء من أخلاقه وتربيته، والتشكيك في مشخصاته التي يستمد منها هويته وانتماءاته الدينية والوطنية.

ويبدو أن كثرة الأحداث السياسية المتلاحقة قد حالت بين القائمين على التعليم في حكومتنا وإعادة النظر، ومراجعة هذا القرار الذي لا يقل خطورة في تبيعاته من تلك المكائد والمؤامرات التي يحيكها أعدائنا في شن حروبهم المعاصرة على أمننا واستقرارنا، اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا. وقد بينا جانبًا من هذه المخاطر في حديثنا في صحيفة الأهرام في (15 من نوفمبر) واستفضنا في ذلك بمقالنا في صحيفة المثقف في (18 من نوفمبر في عام 2024)، ووضحنا مكانة الفلسفة في الثقافة العربية، ودورها في تشكيل العقل الجمعي، وانعكاس ذلك في عيون المثقفين وأذهانهم والاهتمام بها عند رواد الاستنارة والإصلاح، من قادة الرأي في مصر منذ مائة عام، وذلك في مجلة الفكر المعاصر في (العدد 36 من ديسمبر من نفس العام)، ثم صرحنا بما استشرفناه ممّا نأسف عليه في سلوك شبابنا الجامح اليوم، وحال برامجنا التعليمية ومقرراتنا الدراسية، وذلك في الندوة التي عقدت في معرض الكتاب (هذا العام في الثالث من فبراير) بقاعة الصالون الثقافي لمعرض الكتاب برعاية الأستاذ الدكتور مصطفى النشار، والمجلس الأعلى للثقافة.

أمّا حديثنا اليوم؛ فيشتمل على خطاب نأمل العمل على زيوعه بين العاملين في هذا الحقل المعرفي، ومشروعنا العملي.  الذي تمهلنا في دراسة آليات تفعيله ليصبح جاهزًا للتطبيق، بعد التشاور في حيثياته التنفيذية، والخطوات الإجرائية التي تتناسب مع معاهدنا وأقسامنا الأكاديمية. وما نرجوه هو أن تسهم تعليقاتكم في تقويمه، وإثراء ما فيه من إيجابيات.

ولمّا كانت الخطابات التوجيهية والمشروعات العملية هي المقاصد الثوريّة للمتفلسفين، والحكمة العقلية وغايتهم التي يبتدعون من أجلها آليات تنفيذها؛ لتفعيل رسالة الفلسفة في تفسير الغامض، وتبرير الآراء، وتأويل الملتبس، وشحذ العقول للعزوف عن التقليد، والركود نحو التغيير والتحديث والإصلاح.

فأضحى بمقتضى واجبنا المهني والتزامنا الأدبي؛ ضرورة إمعان النظر في المرآة التي تعكس واقعنا الثقافي، وبرامجنا التوجيهية ومناهجنا التعليمية، ومقرراتنا الدراسية، وغربلة جميعها وانتقاء النافع منها الذي يعيننا على التخطيط لمستقبل الفلسفة في مصر.

أولاً: اقتراحات لإصلاح البنية البشرية:

لم يستحِ المجددون وأساتذة الفلسفة في مصر - منذ عام 1907- في التشاور حول كيفية إعداد القائمين على تدريس المعارف الفلسفية في الجامعة، ثم في المدارس في المراحل التعليمية المختلفة، ثم استقروا على هذه القيم والمبادئ:

(١) أن محبة الحكمة يجب أن تتغلغل في نفوس القائمين على تدريس تلك المعارف قبل أن تستوعبها أذهانهم، لذا جعلوا التعاون والألفة والتعاطف والود والاحترام المتبادل من أوائل القيم التي يجب أن يتحلى بها المعلمون فتصبح ضرورة لا غنى عنها في أخلاقيات المهنة. سواء بين القائمين بالتدريس بمختلف درجاتهم، والطلاب بتباين طبائعهم وقدراتهم الذهنية، أو الباحثين الذين يحترفون قيادة الرأي العام في ميدان الإعلام أو المؤسسات التثقيفية. وغير خافي على أحد ما نعانيه اليوم في جل مدارسنا وأقسامنا العلمية من سلبيات مجافية لما حرص عليه وجوده أساتذتنا وروادنا الأول (والتلميح أبلغ من التصريح).

(2) وجوب الالتزام بالأمانة العلمية في إعداد الدراسات والأبحاث والمصنفات المختلفة ذات الصلة، بالقدر الذي يعصم الكٌتاب ممّا نعانيه اليوم في مصنفات البعض؛ حيث الاقتباسات غير المشروعة والأساليب غير المفهومة؛ ناهيك عن الشيفونية والراديكالية والتعالم والتعالى غير المبرر الذي يسلكه غُلة من يزعمون التفلسف، متناسين أن الحياء سنة الحكماء، وأن التواضع سمة العلماء والأتقياء والنبلاء.

(3) ضرورة الالتزام بالحيدة والموضوعية في تقويم الاختبارات والأبحاث ومناقشة الرسائل الجامعية، وانتخاب الأجدر في شغل الوظائف والدرجات والمهام الأكاديمية ذات الصلة المباشرة بالعملية التعليمية.

ثانياً: إصلاح البنية المعرفية:

ما زالت البنية المعرفية الفلسفية في مصر والعالم العربي غير متماسكة الأركان، وذلك لغيبة هيئة عليا تقوم بتنظيم وتقويم مصنفاتها  المعرفية، سواء كانت (موسوعات، أو معاجم أو مواقع) تكشف عن وجهة الدراسات الفلسفية، وأبعادها التوجيهية وخططها البحثية، الأمر الذي يحتاج لإعادة النظر في واقع بنية المصنفات الفلسفية الهاشة المتراكمة على نحو أعاقها عن التطور والتجديد والتحديث، للتعبير عن أقلام كاتبيها الذين راق لمعظمهم الرقود في تقليد ومحاكاة ما خلفه السلف من دراسات أو ادعاء الثورة على المألوف والموروث من المشروعات التليدة، واستملاح تقليد النظريات الغربية بحجة التحديث، ومسايرة العقليات الحرة المتقدمة.

والطريف أن روادنا الأوائل قد أثاروا هذه القضية؛ أعني هشاشة البنية الفلسفية التي ننتجها، واستعانوا على إصلاح ذلك الخلل بتقديم النقد والتحليل على الوصف والتأويل في كل الوافد من النظريات والآراء والأبحاث، سواء كان هذا الوافد من الموروث أو القادم من دراسات المحدثين المستغربين والغرباء، وذلك النهج منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وتشهد بذلك كتابات المشتغلين بالفلسفة في الاستفتاءات التي طرحوها للتشاور على صفحات الدوريات (ماذا نأخذ من الغرب؟) وما هو الأصلح من الآليات للتعرف على نظريات الأغيار وآرائهم (الترجمة، أم التلخيص والتصنيف).

ومن أهم الإجراءات العملية التي اتخذها هذا الجيل لتطوير البحث الفلسفي في مصر- ونحن اليوم نستلهمه لنحييه في ثقافتنا المعاصرة:

(١) تشكيل فريق من نوابغ الباحثين لترجمة دائرة المعارف الإسلامية، وفريق آخر لتقويم ما فيها من متون معرفية بوجه عام، وفلسفية بوجه خاص، وذلك منذ العقد الثالث من القرن العشرين. وفريق رابع يقوم بتصنيف عدد من المؤلفات تجمع بين جناحي الفلسفة القديمة والحديثة، تحقيقًا وترجمة؛ وذلك تحت إشراف لجنة عليا لانتقاء الأعمال الجديرة بالتحقيق أو الترجمة أو التصنيف، وذلك أيضًا خلال أخريات النصف الأول من القرن العشرين.

ونستثني من ذلك لجنة التأليف والترجمة والنشر التي ظهرت مصنفاتها (عام 1914)، والمقالات التي كانت تشغل حيزًا كبيرًا في أعرق المجلات الثقافية؛ مثل مجلة المقتطف، والمنار، والجامعة، والجريدة، والعصور، والسياسة، والثقافة، والرسالة، وغيرها من الصحف الأدبية والسياسية والتاريخية والدينية التي أسست بنية المعارف الفلسفية العربية بأقلام أبنائها،  ثم توالت سلاسل الكتب المؤلفة بأقلام أكابر المتخصصين من خرجي الجامعة المصريّة أو الجامعات الأوربية؛ مثل سلسلة إحياء الكتب العربية (عام 1944)، وسلسلة أعلام الإسلام (عام 1945)، وسلسلة نوابغ الفكر العربي عام (1953)، وسلسلة أقرأ (عام 1955)، وسلسلة نوابغ الفكر الغربي (عام 1956)، ثم سلسلة كتب دار الهلال (عام 1957)، وسلسلة أبحاث دائرة معارف الشعب (عام 1959) ثم سلسلة أعلام العرب (عام 1962)، وسلسلة أبحاث مجلة تراث الإنسانية في نفس العام، وسلسلة مقالات مجلة الفكر المعاصر (عام 1965).

وأعتقد أن هذا الزخم الفلسفي على وجه الخصوص كان وراء نهضة الفكر العربي في المشرق والمغرب؛ حيث ارتقاء الأذواق والأخلاق والمعارف، وتهذيبها ليس في معاهدنا التعليمية والتربوية فقط؛ بل في منازلنا وشوارعنا وأحاديث عوامنا قبل مثقفينا. وأعتقد أنه لا يجانبني الصواب عندما أقرر أن هناك سببًا أخر لا يقل أهمية من جهود هذا الجيل المستنير من الباحثين، يتمثل في أن قادة الرأي من القائمين على سياسة البلاد كانوا يدركون تمامًا أهمية المعارف الإنسانية التي تبني أذهان العقل الجمعي للأمة، بجانب المعارف العلميّة ومراكز التدريب الحرفية للعمال وأصحاب الصنائع. وبرهاننا على ذلك يتمثل في سجلات أسماء الوزراء وكبار الساسة الذين يشكلون العقل القائد لهذه الأمة؛ فسوف نجد من بينهم نسبة تتجاوز الـ 25% منهم- من المعنيين والمهتمين بالمعارف الفلسفية وأهميتها، وضرورة الحفاظ على القائمين عليها ورعايتهم، وذلك باعتبارهم الجيش المنافح عن صوالح الأمة ضد أعدائها الراغبين في هدمها من الداخل بسواعد وعقول أبنائها. ولا ينسينا ذلك أن العلة الحقيقية التي لا يمكن إنكارها في هذا السياق هو سلامة البنية البشرية القائمة على رعاية وتهذيب المعاهد وروح التعاون والحب والود والتفاهم الحاكم لدستور المشتغلين بالفلسفة سواء من المتخصصين الأكاديميين أو المنتسبين إليهم من المثقفين؛ الأمر الذي يبرر تقديم إصلاح البنية البشرية على إصلاح البنية المعرفية، أي تقديم الخطاب على المشروع في هذا السياق.

(١) إعداد دليل أو موقع بحثي لسائر الإنتاج الفلسفي الذي ينتجه المتخصصون في الأقسام الأكاديمية والكليات ذات الصلة. وذلك عن طريق تشكيل لجنة في كل قسم لإنجاز هذا العمل، وإخراجه في صورة موسوعية إلكترونية؛ ليسهل التعامل معها في استبيان المعلومات وإبراز مواطن القوة والضعف والكثرة والندرة والتكرار والطريف والنادر من تلك الأبحاث التي يمكن الاستفادة منها في عدة محاور تعيننا على تجديد وإصلاح وتحديث البنية المعرفية الفلسفية، وربطها بالدوائر المعرفية العربية والعالمية.

(٢) العمل على اتخاذ الخطوات الإجرائية والقانونية والأكاديمية لعودة درجة (أستاذ كرسي التخصص للمباحث الرئيسة في الفلسفة)؛ الأمر الذي يمكننا من ضبط وتحديد المواضع المركزيّة في المقررات الدراسية؛ الذي يجب على كل أقسام الدراسات الفلسفية في هذا التخصص الأخذ بها عند تأليف المقررات أو توجيه الدارسين والباحثين للمواضع التي يجب تطويرها وتحديثها، ذلك فضلا عن تقييم اللوائح الخاصة بالدراسات العليا والمقررات في الدبلومات والفصول التمهيدية لدرجتي الماجستير والدكتوراه؛ ذلك فضلاً عن وضع خطة بحثية مستقبلية لهذا التخصص تمكن المشتغلين به لمواكبة أحدث الدراسات العالمية ذات الصلة به. علمًا بأن هذه الدرجة الأكاديمية كانت مدرجة في الأقسام العلمية للجامعات الأم في مصر؛ حتى منتصف الستينات من القرن الماضي، وذلك لكثرة الخلافات الشخصية التي يجب تلافيها والعزوف عنها في المستقبل (والإشارة أبلغ دومًا من الاسترسال في الكشف عن دلالة العبارة).

(٣) دراسة الآليات المعاصرة لرفع كفاءة أعضاء هيئة التدريس ومهاراتهم، وتشكيل لجنة عليا من قبل المجلس الأعلى للجامعات لاختبار الحاصلين على الدورات التأهيلية لتلك الغاية، بدايةً من النظر في ترشيح المعيدين وانتهاء لتجديد عقود الذين بلغوا السن القانونية دون ترقية لدرجة أستاذ، أو توقفوا عن مواصلة البحث العلمي. على أن يراعى ذلك في تحديث قانون تنظيم الجامعات (المزمع).

(٤) إنشاء مركز أكاديمي متطور لتحديث وتأصيل الخطاب الفلسفي. وذلك لمعالجة خمس سلبيات، أولها: صعوبة لغة الخطاب وتعمد تجهيل المتلقي، وذلك بكثرة إيراد العديد من المصطلحات التي يصعب على المتخصصين قبل العوام استيعاب مدلولاتها. وثانيها: عدم مراعاة البعض للثقافة السائدة في المجتمع في تصريحاتهم الإعلامية التي تخاطب الرأي العام على أنهم يمثلون منبر الفلسفة؛ الأمر الذي يحدث مردودًا سلبيًا على البنية الفلسفية بوجه عام، فتنعت الفلسفة بالكفر أو بالمروق والفوضوية.

وثالثها: الخلط بين الرؤى الأيديولوجيا والحكم على الثوابت التي تقوم عليها مشخصات المجتمع وهويته الوطنية والقومية والحضارية. ورابعها: عدم الالتزام بآداب التناظر وأخلاقيات المثاقفة والجدل والنقد فيما يصدر عن المشتغلين بالفلسفة أو المنتسبين إليها من الأدعياء الذين يتخذون من القدح والهجاء والتهكم المتدني في أحاديثهم النقاشية. وخامسها: مجافاة أصول الحوار الفلسفي الذي يجب على من ينتحله العزوف عن التعصب والراديكالية والشيفونية، وذلك في عرض الرؤى والتصورات التي تؤكد الاتهام الشائع الذي طالما أتهم به المشتغلون بالفلسفة من قبل الرأي العام التابع؛ ألا وهو التعالي ومفارقة الواقع المعيش، والعزلة في برج عالي بمنأى عن المجتمع الذي يعيشون فيه.

وللحديث بقية عن الخطوات العملية لتجديد وتحديث البنية المعرفية للفلسفة.

***

بقلم: د. عصمت نصار 

في المثقف اليوم