قضايا
فضل فقيه: العالم بعد نيوتن.. العلم التجريبي كمقياس حضاري

عاشت أوروبا مرحلة سوداء في تاريخها سميت بالعصور الوسطى. تلت هذا العصور ثورة فكرية وعلمية بدأت بالتوازي مع التحرر من سلطة الكنيسة المطلقة وبدء ظهور تيارات دينية أكثر تحررًا كالبروتستانتية. قاد هذه الثورات علماء وفلاسفة نزعوا القداسة من الطبيعة ووضعوا الأساس للعلم التجريبي في شكله المعاصر. حولت معادلات نيوتن وملاحظات غاليليو وغيرهما الكون إلى مسرح يعرض أمامنا، وعلينا نحن فك شيفرته وتفسير ظواهره. لم نعد نسع إلى التوحد مع الكون، إنما أصبحنا المراقب والناقد لكل الأحداث التي تمر أمامنا.
نشأ تيار فكري جديد اتخذ من تجزئة المشاكل والأسئلة لحل كل منها على حدا. وبعد فهم الأجزاء نستطيع فهم الكل. واعتمد هذا الأسلوب مبدأ القفز والتعميم. إذا صحت قاعدة فيزيائية على الأرض، صحت في كل الكون منذ بدايته لحين يومنا هذا. غيرت هذه المرحلة وجه العالم إلى الأبد ونقلت أساليب جمع المعرفة إلى مستوى مختلف. تحول العلم التجريبي إلى معيار لتقدم الحضارات وتفوقها. ولكن هل نجحت تماما؟ هل نجح نيوتن ومن تبع خطاه من الإجابة عن الأسئلة الكبرى؟
العلم التجريبي كمحرك للحضارة
منذ أوائل القرن العشرين، تسارعت الاكتشافات العلمية ولا تزال تأخذ منحا تصاعديا في التقدم. لهذا التقدم المتسارع أسباب عدة كتحسن المستوى المعيشي والتعليمي للبشر بشكل عام ما أدى إلى انخفاض الأمية، لا بل اندحارها في الكثير من الدول. بذلك، اكتسب العلم التجريبي زخما مصحوبا بإمدادات بشرية ومادية هائلة. أدى هذا الزخم إلى إنجازات غير مسبوقة في شتى المجالات كالصناعة والطب والزراعة وغيرها.
منذ بدء الثورة الصناعية إلى الآن، وفرت التكنولوجيا معدات وخطوط انتاج متطورة للمصانع. سرعت هذه الخطوط من الإنتاجية والفعالية. خلق التقدم الصناعي بيئة تنافسية ضخمة، ما أدى الى الاستثمار في مجال الأبحاث الصناعية، والأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة للزراعة. أضافة إلى القطاعات الاقتصادية، ساهمت التجربة بشكل كبير جدا في المجال الصحي حيث تضاع أمد الحياة بشكل غير مسبوق مدعوما بتطور سبل مكافحة الأمراض وعلاجها. وبدورها قدمت الإنجازات التكنولوجية جانبا من الرفاهية لحياة الانسان.
قدمت الأبحاث في مجالات كعلوم الحياة والفيزياء وعلم الفلك أجوبة لأسئلة وجودية لطالما لاحقها الفكر الإنساني. فمنذ فلاسفة اليونان، تساءل البشر عن طبيعة المادة والحياة. قد لا يكون العلم قد قدم إجابات نهائية أو نظريات كلية شاملة تفسر طريقة عمل الكون، إلا أنه أجاب على كثير من المسائل كطبيعة المادة وطريقة عمل الخلية والوراثة. فضلا عن أن الكثير من هذه المجالات لا تزال عمليا يافعة - قياسا بتاريخ الحضارة البشرية - حيث أنها بدأت في المنتصف الثاني من القرن العشرين.
بذلك، أصبحت التجربة والقياس والتكرار أدوات الوصول إلى الحقيقة والتقدم. بتنا الآن ننظر إلى العالم كمسرح لتجاربنا ونقيّم الأمم وفقا لمدى نجاحها العلمي. فالتطور العلمي جعلنا مهندسين للطبيعة لا متأملين لها.
المنهاج العلمي كميزة تاريخية
رسم فلاسفة العلم والعلماء الأوائل خارطة طريق فريدة للعلم التجريبي. وضع هؤلاء كفرانسيس بيكون وتوماس كيون وكارل بوبر المعايير التي يجب أن يعمل بها العلم التجريبي وكيفية وضع النظريات والالتزام بحدودها دون القفز الى استنتاجات خاطئة أو غير مدعومة بتجارب كافية.
إن ألف باء العلم التجريبي قائمة على وضع فرضية مقتبسة من المعرفة الحالية. تختبر هذه الفرضية ضمن مساحة وشروط دقيقة، وتوضع النظريات وفق لمخرجات ونتائج التجربة. ومن المعايير الأساسية للقياس هي إعادة تكرار التجربة قبل نشرها لضمان مصداقية المعرفة الناتجة عنها. يخضع كل بحث قبل نشرها لمراجعة من علماء متخصصين في المجال ذاته حيث ينتقدونه ويقترحون تعديلات ابان نشره في المجلات العلمية.
رغم الكثير من الشوائب التي شابت هذا المنهج والتعديلات المقترحة، بقي المنهج بإطاره العام صامدا. شكل المنهج العلمي شبكة أمان للعلم التجريبي لكيلا يقع في فخ التنظير العبثي الذي وقعت فيه الفلسفة مسبقا.
المآزق الجديدة
رغم التقدم الكبير الحاصل إلا أن مآزق أخرى وقع فيها العلم التجريبي على الصعيد الإنساني والمعرفي. يرجع ذلك، بشكل أساسي إلى المادية التي ارتبطت بالعلم التجريبي. ان الدور الكبير الذي لعبه الشك في العلم التجريبي أدى بشكل أو بآخر الى طرح تساؤلات وجودية حول معنى الحياة والمفاهيم والقيود الأخلاقية.
أما في الجانب الصناعي، فكلما ارتفع الإنتاج، احتاجت الدول الصناعية لمواد أولية وأسواقا لتصريف انتاجها. أتت الامبريالية كنتيجة طبيعية للرأسمالية وكان الاستعمار وويلاته على الشعوب المستعمرة. وفي سباق الهيمنة الذي أصبح بلا حدود أو قيود، ولد سباق التسلح، فوضعت الدول المتنافسة العلم التجريبي كمحرك للأبحاث العلمية لفرض تفوقها. أثبت العلم التجريبي مجددا نجاحه، إلا أن هذا النجاح أتى على حساب دول وشعوب أخرى عانت ولا تزال من أثر الاستعمار والحروب.
إضافة الى ذلك، فقد فشل النمو الاقتصادي المدفوع من العلم بمنع أزمات اقتصادية وركود عصف بالعالم مرات عدة، إضافة الى آلاف المشردين والعاطلين عن العمل في البلاد المتقدمة نفسها. إذا فقد فشل عالم ما بعد نيوتن في حل المشاكل الاقتصادية والمعيشة، لا بل ساهم بتفاقمها في العالمين المتقدم والنامي بشكل مباشر أو غير مباشر. يعود بعض من هذا إلى أن العلوم الاقتصادية من أكثر العلوم تعقيدا.
على الصعيد المعرفي، فشل غرب نيوتن بإعطاء إجابات لكثير من الأسئلة الوجودية. فالعلم التجريبي يعتمد أسلوب معرفة الأجزاء لمعرفة الكل. ورغم نجاح هذه الاستراتيجية كما ذكرنا سابقا في شتى المجالات، إلا انها فشلت حتى مثلا في اعطائنا ما يحلم به العلماء كمعادلة واحدة أنيقة تفسر طريقة عمل الكون والوجود. وفشلت في الإجابة عن ماهية الوعي والادراك البشري وأصل بداية الحياة وغيرها الكثير. يقر كثير من العلماء، في مجال علوم الحياة مثلا، أكثر من غيره، بضرورة الأخذ بعين الاعتبار النظرة من أعلى الى أسفل حيث أن الكل يؤدي الى بلورة المعارف حول الجزء.
الخاتمة
رغم النجاحات الكبيرة التي حققها غرب ما بعد نيوتن، إلا أن الكثير من المشاكل العالقة تذكرنا بحاجتنا الدائمة للتفاعل بين فلسفة الشرق وفلسفة الغرب. وتعيد الينا، كمشرقيين، المآزق التي وقع فيها الغرب الأمل بفرصة الالتحاق بركب العلم التجريبي مع دمجه في فلسفتنا الشرقية.
***
فضل فقيه – باحث
......................
قراءات إضافية:
سعيد، إدوارد. الاستشراق. ترجمة كمال أبو ديب. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1981
Acemoglu, D. & Robinson, J. A. Why Nations Fail: The Origins of Power, Prosperity, and Poverty (Profile Books, London, 2012).