قضايا
أكرم عثمان: التواضع قيمة خالدة في زمن المظاهر

يعد التواضع من أرقى القيم الإنسانية، التي تضفي على الشخص والعلاقات الاجتماعية روح الانسجام والتوافق والاحترام. فهو ليس مجرد مظهر خارجي نصدره أو كلمات رقيقة نتبادلها، بل هو سلوك حضاري متأصل في شخصية الإنسان، يعكس نضجه الأخلاقي وتربيته الأصيلة بالقيم.
في عصرنا الحاضر، أصبح التواضع عملة نادرة، وقد يصفه البعض بالسذاجة أو التظاهر بالود والتهذيب للحصول على منفعة آنية، في مواجهة موجات التفاخر والمظاهر التي تسود العديد من الأفراد والجماعات في المنظمات والمجتمعات.
في عالم يتسارع فيه التنافس على المظاهر، والبحث عن الألقاب والمكانة والصدارة، تبهت القيم الإنسانية العريقة، وتضعف ممارستها التي كانت يوماً أساس العلاقات الاجتماعية المتينة، حيث يعرف صاحبها بأنبل القيم السامية والجليلة. ومن القيم التي أهملت أو تراجعت أمام النزعة المادية وحب الظهور وفرض الذات، تبرز قيمة التواضع. فهي ليست سلوكاً ثانوياً أو خياراً يمكن تجاهله، بل هي جوهر الشخصية السوية ومؤشر على نضج العقل ورقي الروح وخلوها من الأمراض والآفات الاجتماعية التي أصبحت متفشية بسبب التقلبات المزاجية والابتعاد عن القيم الراسخة المستمدة من ديننا الحنيف وسنة المصطفى ﷺ.
يبدأ التواضع الحقيقي من الداخل، من قناعة راسخة بأن قيمة الإنسان لا تقاس بما يملك من مال أو جاه أو منصب، بل بما يحمله من أخلاق وما يقدمه من خير للآخرين. يبدأ من البيت، حيث تربية النشء على تقدير الكبير والاستماع له واحترامه، ورعاية الصغير وفهم خصائص نموه واحتياجاته. ومن خلال وضع قواعد الاحترام والتقدير والتقيد بالواجبات والحقوق، ينمو التواضع مع الأطفال، وتكمله المدرسة والجامعة عندما يحترم الفرد نفسه وعلمه وخبرته وفنون التواصل مع الآخرين.
يصبح الشباب المتواضعون قوة متينة في مواجهة تحديات الحياة، متعطشين للعلم والتعلم، مهما امتلكوا من معرفة، فالسنبلة المليئة بالحبوب تبدو متواضعة، بينما الفارغة تبدو متكبرة. وهكذا حال من يمتلك وعياً وعلماً: يظهر تواضعه ولينُه، في مقابل من تعلم قليلاً وفقد قيمة التواضع، فيظهر كبره وغروره لتعويض نقصه.
" وأشار الفضيل بن عياض عن التواضع ؟ فقال: يخضع للحق ، وينقاد له . ويقبله ممن قاله. وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة. فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب ".، نعم! اجعل أعمالك ونتائجها تتحدث عنك، لا تتحدث عن نفسك إلا عندما يطلب منك ذلك، أو لو تعرضت لظلم من الحق أن تدافع عن نفسك وتثبت شمائلك وصفاتك وجدارتك واحترافيتك.
ويكمن التواضع في العمل في تقبّل من حولنا والتعامل معهم بسمت إنساني وأخلاقي، وفي ترسيخ التعاون والتشارك معهم. فلا يهددنا منصب، ولا يضعف قوتنا وجود زميل أو مجموعة من الموظفين، وما يضعف قوتنا حقاً هو اعتقادنا أن وجودهم قد يقلل من مكانتنا، فهذه قناعات هلامية وضلالات تُجهد من يظن فيها ويفكر بها.
قوتك تكمن في أن تكون شفافاً وواضحاً، قادراً على استيعاب الآخرين ونقل العلم والمعرفة والخبرات لهم، فتكون صاحب رسالة في عملك. العظماء يبنون ويعززون من خلال تدفق وجودهم ومساندتهم ونقل خبراتهم لمن حولهم، والتشارك معهم كفريق متماسك لا تهزه الظروف أو الأحداث أو الأشخاص مهما كانت التحديات والصعاب.
تواضعك إثراء لشخصك ولمن يجاورك ويعمل معك، فالتواضع الذي يسري في النفوس الغنية، والتي تملك حس القرب واللين بعيداً عن التطاول أو التظاهر بالتفوق على الآخرين، يظهر قوتها، ويُماسك عودها، ويزداد عطاؤها وأداؤها وجودة عملها.
هذه القناعة تنشئ إنساناً قادراً على التعامل بوعي وحكمة، بعيدًا عن الغرور والتعالي، مدركاً أن احترامه للآخرين يزيده رفعة وقبولاً واحتراماً. فالتواضع يخلق مجتمعاً أكثر انسجاماً، يقل فيه الصراع ويزداد التعاون والتراحم، بينما يزيد التكبر الفجوات الاجتماعية والتوتر، لأنه ينبع من شعور زائف بالتفوق وسعي دائم لإثبات الذات.
غالباً ما يكون التكبر نتيجة التربية غير المتوازنة أو بيئة اجتماعية تقيم الإنسان بناءً على المظاهر أكثر من الجوهر. والتواضع لا يعني الخضوع أو إلغاء الشخصية، بل التوازن بين الاعتزاز بالنفس واحترام الآخرين، ومن أسمى مظاهره الاعتراف بالخطأ، والتعامل بإنصاف، والتقدير للجهود مهما كانت بسيطة.
من الناحية النفسية، يحرر التواضع الإنسان من قيود المقارنات الاجتماعية المستنزفة للطاقة والمهددة للسلام الداخلي، بينما يعيش المتكبر في سباق دائم لإثبات ذاته. وأكد الدين الإسلامي على هذه القيمة وجعلها من سمات المؤمن الحق، حيث قال النبي ﷺ: "ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" (رواه مسلم)، مشيرًا إلى أن التواضع طريق للرفعة الحقيقية. كما يوضح القرآن الكريم: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: 63]، وهذه الآية لا تقتصر على طريقة المشي، بل هي منهج حياة قائم على التوازن واللين في التعامل.
اليوم، نحن في أمس الحاجة إلى إعادة إحياء قيمة التواضع في الأسرة، المدرسة، وبيئة العمل، من خلال القدوة الحسنة والتربية الوجدانية منذ الطفولة. فالتواضع يعلمنا أن النجاح لا يكتمل إلا بمشاركة الآخرين قيمته، وأن القوة الحقيقية تكمن في كسر غرور النفس والسمو فوق الأهواء.
التواضع ليس مجرد فضيلة فردية، بل ركيزة أساسية لاستقرار المجتمعات، ونشر المحبة والتفاهم، ومفتاح كل علاقة إنسانية ناجحة. وفي عالم يموج بالتنافس والمظاهر، يبقى المتواضع الأكثر تأثيراً، لأنه يشع نوراً من الداخل قبل أن يظهر في الخارج.
الخاتمة
التواضع ليس مجرد صفة فردية، بل حاجة مجتمعية كبرى، لأنه يبني جسور التواصل بين الناس، ويعزز الاحترام المتبادل، ويقلل النزاعات الناتجة عن الغرور والمظاهر الزائفة. وفي زمن تغلب فيه النزعة الاستهلاكية والمباهاة، نحتاج إلى غرس هذه القيمة في نفوس أبنائنا منذ الصغر، من خلال القدوة الحسنة والتربية على الاحترام والتعاون، لأن المجتمعات المتواضعة هي الأكثر أمناً وسلاماً وترابطاً
فلنجعل من التواضع سلوكاً يومياً، لا شعاراً نرفعه في المناسبات، فهو المفتاح الحقيقي للقوة الداخلية والسعادة الإنسانية. ومهما ارتفعت المناصب أو زادت الممتلكات، يبقى التواضع المقياس الحقيقي للرقي.
***
د. أكرم عثمان
27-8-2025