قضايا
حنان سالم: أنطولوجيا الخيال عند بن عربي.. قراءة فيلولوجية

"محيي الدين بن عربي" أكبر مفكر عربي موسوعي في تاريخ الفكر الإسلامي، فقد ساهم استعداده الفطري ونشأته الدينية في إبراز الناحية الروحية عنده في سن مبكرة. فأصبح " الشيخ الأكبر" وصاحب الطريقة الأكبرية للمتصوفين في عصره.
كما تجاوز كونه متصوفاً؛ ليصبح من أرباب الفكر والنظر العقلي؛ فلقب بـ " بن أفلاطون" بعد تردده علي الفيلسوف " بن رشد"، وبعض المدارس الرمزية، حتى نسب له فكرة " الانسان الكامل"، وكانت هذه الفكرة شائعة في الصوفية، لكن بن عربي من تعمق في تحليلها مستعملاً " انعكاس المرآة " كاستعارة فلسفية في قضية الوحدانية.
ولم يكتف بن عربي بكونه الفيلسوف المتصوف؛ ليصبح شاعر الصوفية فقد نظم ديوانه الشعري "ترجمان الأشواق" الذي خصصه لمدح زوجته " نظام بنت الشيخ أبي شجاع الأصفهاني التي عرفها عند نزوله مكة لأول مرة؛ والذي تغني بها بلغة رمزية روحانية تمثلت له في صورة ملائكية كشفت له عن تجليات إلهية؛ ليستكمل أشعاره الصوفية في مؤلفه " فتوحات مكية". فكانت بمثابة التجربة الروحية والوسيط السحري له بين الفكر والوجود وتجلي صور المحبوب المحسوسة في الذهن بالخيال؛ لتصل به إلى مرتبة "الشوق الالهي".
هذا؛ وتتسم كتابات " بن عربي" باللغة الرمزية العميقة التي تضفي على نصوصها التعقيد وتعذر الفهم، مما جعل بعض معاصريه ومريديه يختلفون معه في بعض الأحيان وحتى القراء في كل عصر، فقيل عنه أنه " ظاهريُّ المذهب باطنيُّ الاعتقاد". وكان مبرره في ذلك أن من فسر ألفاظه بالطريقة الصحيحة فهم ما يقصد من رمزيته، وقد حذر من تداول الكتب بين الجهلاء ومن سلم بظاهر تلك الألفاظ دون علم بمعانيها في المذهب الصوفي رأي فيها كفراً.
بيد أنه في تصوري أن هذا التعقيد هو حال التجربة الشخصية العرفانية حينما يكون في حالة الفناء الشامل والاتحاد مع الذات الإلهية، أي في حال "العشق الإلهي" وتمثلاته فلا يفهمها سوى العرفاني ذاته.
من ثم يبرز لدينا تساؤل ملح في هذا الصدد ربما يحيلنا إلى الخشوع في النجوى مع الله سواء في خلوة أو في الصلاة، ألا وهو ماهي حالة العشق والتوق الإلهي، وما نوع الحب الذي يحدث هذا التماهي في مذهب العرفاني؟ وما علاقتها بأنطولوجيا الخيال؟
يُخيل إليّ أن ما نسميه "حباً إلهياً" أو عشقاً عند بن عربي هو مقام حواري يتبادل فيه المحبوب والمحب - الخالق والمخلوق - مواقع التمثل والوجود. ويرى "هنري كوربان" أن للحب مظهران: شوق الخالق للخلق وحنين الحق في جوهره " الكنز الذي لا يعرف" التائق للظهور في الموجودات حتى ينكشف بها ولها. وعلي جانب آخر هو شوق المخلوق للخالق، وهو في الواقع تجليات الله في الكون، والصورة الباطنة لجمال الخالق والتماهي معها؛ فالمشتاق هو نفسه المشتاق إليه رغم أنه ليس هو في تعينه وصورته. فهما ليسا موجودين مختلفين ولكنهما موجود يلاقي نفسه، فينعكس في مرآة على صفحتها الجمال الإلهي، وصورة يتجلى فيها العشق الإلهي. والله تعالى الذي صوره وأوجده.
وهنا يحدث الشوق اللامتناهي الأزلي الذي يشعر به العرفانيُّ من تعرفه بالله، كما يؤكده الشيخ البسطامي في قوله:" إنه شَرِبَ شراب المحبة والهوي فما كلَّ وما ارتوى".
من ثم نجد أنّ المحبة عنده حقيقةً إلهية وسببًا في الظهور والتعرّف، حيث يقول: "إنّ الحب لا يتعلق إلا بمعدومٍ يصحّ وجوده، وهو غير موجود في الحال، والعالم مُحدَث، والله كان ولا شيء معه، فكان الحبّ أصل سبب وجود العالم، فالمحبة مقامها شريف، وهى أصل الوجود عنده. وعليه؛ فقد ظهر ما ظهر في الكون على صورة الله، حيث لم يكن علمه بالعالم إلا علمه بنفسه، فلم يكن في الوجود إلا هو: "وصورة العالم على قدر الحضرة الإلهية أو "الحضرة الخيالية" كدلالة علي المَلكة الوسيطة أو ذلك الخيال الفاعل أو الخلاق الذي له سلطة إضفاء وظيفة الملائكية للموجودات.
وهنا نسأل: ما وظيفة الخيال عند بن عربي وعلاقته بوحدة الوجود أو الذات الفاعلة؟
يؤكد بن عربي على أهمية الخيال في نظرية وحدة الوجود؛ كمصدر خلاق للتجلي، والسبب الفعلي لوجودنا، والوسيط القوي الذي يمكننا من البقاء بحالة تواصل مستمر مع المطلق؛ إذ إن الخيال وسيلة معرفية أساسية في الكون، ويقوم بتحويل المحسوسات إلى صيغتها اللطيفة اللامتناهية، فيتنزل بها الإله ويصعد بالمحسوس في عملية "منازلة" ويصبح الخيال محل اللقاء بين (اللامحسوس الالهي والمحسوس)، وأداة التفاعل بين المرئي واللامرئي، وبين الروحاني والمادي. ويقول ابن عربي في ذلك: " الذي لا يعرف منزلة الخيال، خال من المعرفة".
والمعرفة الحقة عنده هي أي عالم يظهر الحق فيه (إيجادا ووجودا) موضوعياً تحت عناية الطبيعة العامة، فهي تترادف إلى حد كبير مع كلمة عالم أو مرتبة؛ والكونَ يتكون من عالمين أو حضورين: "الغيب والشَّهادة، يقول: "والحضرة حضرتان، وإن كان قد تولد بينهما حضرة ثالثَةٌ منْ مجموعهما؛ فالحضرة الواحدة حضرة الغيب، ولها عالم يقَال له "عالم الغيب"، أنه ثمة عالم ثلاثي يوجد "وواقعياً": إذ بين الكون المدرك بواسطة الإدراك العقلي (عالم العقول الملائكية) والثانية: عالم الشهادة أي العالم المدرك بالحواس. والثالثة: يوجد عالم وسط هو عالم (الأفكار، الصور، والتمثيلات، والأجسام اللطيفة "المادة اللامادية").
وهذا العالم واقعي وموضوعي وأبدي مثل العالم المعقول والمحسوس؛ فهو عالم وسط: "تتجسد فيه الروح ويتروحن فيه الجسد"، يتكون من مادة وامتداد واقعيين؛ ذلك هو العالم الوسط الذي تشكل المخيلة الفعالة موضوعيته ووجوده، إنه موطن التجليات بالنسبة لابن عربي؛ هو المشهد الذي تقع فيه الأحداث الشهودية والحكايات الرمزية في واقعها الحقيقي. هذا هو عالم ابن عربي الذي تكشفت له فيه الحقائق والمعرفة الحقة.
وبناءً علي ذلك أتصور أن قوة الخيال الإنساني لا يمكنها أن تكون تخييلاً عبثياً أو وهماً؛ لأن التجلي نفسه يستمر من خلال الكائن الإنساني وعَبْره في الكشف عما أظهره لنفسه، وتخيله في الأصل والأزل، على حد قول ابن عربي في قوة الخيال المتجلي؛ لأن الخلق مراحل متجددة في سيرورة مستمرة، وتخيل في تخيل، أي تخيل متجدد أيضاً؛ لأن فعل الخلق بنفسه أمر متجدد.
فهذا الخيال الذي به يتجلي الخالق، والذي به كشف عن العوالم، يجدد الخلق من لحظة لأخرى في الكائن الإنساني، الذي كشفه باعتباره صورته المكتملة، التي تظهر له في المرآة بانعكاساته وظله، والتي هي صورة له.
وهنا يتجلى الحديث عن " النور الحق" هو الوجود المطلق الذي يعلن نفسه في الوجود المقيد. هذا النور الَّذي يكون فاعلا في عالم الغيب. فلا موجود بحق إلا الله، ولا موجد بحق إلا هو، والذي يكشف بحق للذات الالهية أعيان الممكنات الموجودة في جوهره. فالنور عنده هو أصل نشأة الكون؛ لأنه أصل الكشف والمعرفة.
يوضح ابن عربي هذه الفكرة قائلا في الفتوحات المكية:" واعلم، أيَّدكَ الله، أنَّ الأمر يُعطِي أنه لولا النور ما أُدرك شئ لا معلوم ولا محسوس ولا متخيل أصلاً. وتختلف على النور الأسماء الموضوعةُ للقوى؛ فهي عند العامة أسماء للقوى، وعند العارفين أسماء للنور المدرك به، فإذا أدركت المسموعاتِ سميت ذلك النور سمعاً، وإذا أدركت المبصرات سميت ذلك النور بصراً، وإذا أدركت الملموسات سميت ذلك المدرك لمساً، وهكذا المتخيلات؛ فهو القوة اللامسة ليس غيره، والشّامة والذَّائقَة والمتخيلَة والحافظَة والعاقلَة والمفَكرة والمصورة، وكل ما يقع به إدراك فليس إلا النّور.
والحقيقة أن "ميتافيزيقا الخيال الفاعل" لعالم التمثلات والصور هو العالم الوسيط بين عالم الغيبيات وعالم الشهادات، أي الوسيط السحري بين الفكر والوجود، وتجسيد الفكر في الصورة، وموقعة الصورة في الفكر فكل حقائق الوجود تتجلي في صورة واقعية فيه، ولما كان كل شيء يظهر للحواس أو للعقل يملك دلالة، فهي دلالة تتجاوز المعطى المباشر للوجود وتجعل من ذاك الشيء رمزاً وإشارة ..
وبالرغم من ذلك؛ فإنّه لا يجب الخلط بين الخيال والفانتازيا، فهي على خلاف الخيال، ولا أساس لها في الطبيعة؛ فالأمر يتعلق هنا بالمجاز، وإعدام الدلالة الموضوعية للموضوع. بينما في التصور العرفاني للخيال؛ فإنه هو ما يطرح شيئاً في الوجود؛ وهو فعل المعرفة ويساهم في خلق الوجود.
وفي الخاتمة أود أن أبوح بصعوبة فكر "ابن عربي" ورمزية تجلياته التي شكلت في وجداني شعور معرفي مختلف بالرغم من قراءتي لبعض مؤلفاته من قبل، لكنها لم تترك أي انطباع عن التصوف سوى خرافات عرفانية. والخلاصة أن الخيال لا ينفصل عن المعرفة، بل تجد المعرفة الصوفية في الخيال مرتكزاً أساسياً. بل إن التصوف الخاص بابن عربي هو الذي حدد مبدئياً القيمة المتفردة للخيال وللمعرفة وينبني على هذا الأساس فكرة أخرى عن الوجود وباب ينفتح على العالم، حيث يمثل الخيال "عالم البرزخ" الذي يقع بين عالم الغيب وعالم الشهادة. وهو ليس مجرد وهم أو خيال زائف، بل هو قوة خلاقة تمكن الإنسان من إدراك الحقائق الإلهيّة وتجلياتها في العالم.
***
بقلم: د. حنان سالم