قضايا

مصطفى غلمان: المدينةُ التي تحجُب عنا سماء الحضارة

منذ سن مبكرة وأنا أقرأ عن أحلام فلاسفة المدينة الفاضلة (أو المثالية). اكتشفت ربما أن خيالات أفلاطون، كانت تستوعب جزءا من إدراكاتي العقلية والفكرية، وتسع كل طاقاتي الإبداعية، لدرجة أني كنت أعتقد في يوطوبياي الهشة، أن حكمة المدينة المعيارية، ستكون علامة فارقة في النبل والأثرة والكفاية والإنصاف. لكن، وفي حدود انقباض الآمال وتجهم الحوافز وتشرذم القيم وارتداد أخلاق الإنسان، تعثرت تلكم الأحلام، وانحبست في كسورها وأوابدها، مرتجفة ومستدبرة من هجوم الأضداد والخوالف والانهيارات الحضارية والثقافية على مقدراتها ونواظمها، إذ لم تعد تشمل طبيعتها «المثالية» كمدينة تجلو بصفات المواطنة المعنوية والروحية والهوياتية.

تلكم الأنساق القائمة على قوة الدفع والتدافع، وتحقيق مناطات الوجود والرقي، بما هي صفات محايثة للكرامة والعدل والمساواة والرفاهية، داعمة لكل هياكل التحضر والمدنية، ليس في أسلوب العيش فقط، ولكن أيضا، في المظهر العمراني والتنظيم والتخطيط والأداء الخدمي السكاني السلوكي البشري والإداري.

في عالم معكوس يراد به إدانة شرعية العالم الصحيح الواقعي، نلتقي دائما كطوباويين متأخرين، الارتقاء بأحلامنا نحو علياء مدينة توماس مور "الطوباوية" الاستثنائية، حيث "المكان لا وجود له في أي مكان، وعلى حضور غائب، وحقيقة غير حقيقية"، لكنها محكومة بجغرافيا لا نهائية، وشعب شبحي ونظام صامت غير مأهول بالتعارض أو الاصطفاف

ينساق هذا الاعتبار الفلسفي، إلى مديات قيمية ذات حمولة مجردة من كل احتمالية أو تخلف، تستتبع في عمقها درجات من الغبطة والسعادة والحظ والخير، كأنها قاطرة للإدامة والتنوع وحياة النموذج، تماما كما هو الحال في رمزية حدائق الكينوس داخل نشيد الأوديسا في الجزيرة السعيدة.

تشوهات قضمت لسان مدينتي المتخيلة، وألقت بصمتها في غياهب الضمور والتواري. لم يعد باستطاعتي حتى استحضار وجه المدينة كخلفية نوسطالجية اختلستها شيخوخة الزمن واضطراباته العنفية المروعة، كما اختلالاته وانفلاتاته المستعرة، التي غرفت من أيادي أفاقي النصب والسمسرة وفساد الأخلاق. فقد أضحت سرابا ثاويا يتجافى عن استرداد الصور والعلامات الدائبة المأسورة في قدورها وأحوازها الضيقة.

ومع الانتشار الواسع لمفهوم الاستبدال الرحلي والتجلي السفري، في أبهى حلله وأبنيته الجديدة، اختلطت القصص الحقيقية بتلك المتخيلة لبلاد سعيدة، توجَّه منسوب تعبيرنا لمجهول يستحكم بقوة الحرية المزعومة، وتسارع التأثير في مخزون المستقبل وانتظاراته البذخية المشتهاة، بغريزة مفتوحة على كل الاحتمالات، غير آبهة بقيم الجمال والحس السليم والذوق الراقي، منحدرة نحو العوالم المفتونة بالغنى المادي والكسب السريع والإغداق السافر وإفراغ كل مبدإ من قيمته الحقيقية.

وإذ يتحول هذا المشهد الدراماتيكي، إلى واجهة سحرية متلاشية، تجترحها نتوءات راجفة، في غموضها وانحدراها إلى ما يسميها اليوطوبيون الجدد ب "العالم الأخلاقي الجديد"، الذي تتنمط فيه النظريات وتتعزز بشعبوياتها المؤدلجة، وتتكرس فيها روابط السياسة الكذبية، ومزوري الضمائر، ومنعدمي الخصوصية، تصير فيه أحلام البشر المؤمنين الصالحين بالعدالة والمساواة والخير، مجرد حيوانات محشورة في زوايا العسف والبوار والمغالاة. ولم يعد لتحصيل السعادة ها هنا، كما يقول الفارابي، أي امتلاء يجُب ما قبل، حيث تكون "السعادة القصوى غاية قصوى، وخير أسمى يعين الإنسان على تحقيق مدينته الفضلى".

في ذلك الجلال المنصف لمعنى السعادة في مدينتنا المثالية، يرتقي هذا الإحساس ويسمو، كأنه ينهل من بواعث هذه المعارف التي تخلد لجزء من تاريخنا المقروء، المستنير المستعطر من مرجعيات فكرية قدوية تعتبر زوال الشرور عن المدينة وحصول الخيرات الطبيعية والإرادية كلها، نافذة لاحتواء السعادة الفاضلة، كما هي كائنة عن الكمال المطلوب.

ومن عجيب هذا التفكير، أن ترتبط السعادة في المدينة الفاضلة، بما يتوجب على الساكنة القاطنة فيها، أن تسمو بما يلزم من النفس والإرادة والمعرفة، وكلها تشوفات تضاهي في بلاغتها نزوعية نحو الإخلاص واستبطان قوة المروءة، حيث يصير الإنسان بإرادته واختياره، سعيدا بأخلاقه ومعرفته. غير منساق لملذاته وغرائزه.

فهل كان لنا اليوم، وفي ظلمة طويلة ممتدة عبر كل هذه الانهيارات، أن نصل باب الحكمة في القبض على سعادة مدينتنا المأمولة؟

لا أعتقد أن مدينة بهذه الصفات الروحية العلوية، ستستيقظ بغثة، وتعود إلى ملقاها الإنساني فينا. فقد ضيعتنا الأحقاد والفتن وحب الأموال وانتشار الجهالات. لكننا بإزاء هذا البلاء العظيم، صار من الضروري إعادة تطويع وتصنيف أفعالنا وسننا الإرادية وأخلاقنا وملكاتنا وسجايانا، دون أن نحيد عن حقيقة انشغالنا بالتفاهات والخوالف المهيضة، مع تجفيف كوابح رؤيتنا للعالم ومتغيراته، في ظل تقعر الغايات والمحسوسات، التي تجعل من حالاتنا العقلية والنفسية، مضمارا للتوازن والتحلي بروح المعرفة وتحكيم العقل وارتضاء الأفضل.

***

د مصـطـفــى غَـــلمـان

 

في المثقف اليوم