قضايا

تركي لحسن: الموسيقى الكلاسيكية الغربية بعيون عربية

في خضم هيمنة المفهوم الأيديولوجي للمركزية الأوروبية فرّق الأوروبيون بين ما أسموه "الموسيقى العالمة" أي الموسيقى الكلاسيكية، و"الموسيقى الشعبية". فكانت الأولى بالنسبة إليهم موسيقى تخاطب العقل، أما الثانية فهي مجرد موسيقى للترف تخاطب العاطفة والوجدان. في هذا الصدد تحدث عالم اجتماع الحداثة ماكس فيبر، في إطار ما أسماه بـ " désenchantement du monde" أو نزع السحر عن العالم، وضمن مشروعه الحداثي الشامل، عن عقلنة الموسيقى، وقد كان مفتونا بظاهرة العقلنة التي كان يجب أن تطال كل شيء، حسب رأيه. لم تكن عقلنة الموسيقى سوى هوس أوروبي بهيمنة العلموية "Scientisme" أو الباراديغم العلمي، على جميع مناحي الحياة.

اعتقد ماكس فيبر كغيره من الأوروبيين الشوفينيين أن الموسيقى الكلاسيكية هي موسيقى علمية بحته، لغة رياضية لها كلمات وجمل وقواعد يمكن أن يفهمها العقل البشري تماما كفهمه للغة. تبنّت البورجوازية الصاعدة، آن ذاك، هذا المفهوم ووظفته في مشروعها السياسي والأيديولوجي الذي تسعى من خلاله للهيمنة على السلطة. تحولت الموسيقى الكلاسيكية بعد ذلك إلى رمز من رموز الانتماء الاجتماعي للطبقة البورجوازية، فأُفرغت من محتواها الفني لتتلّبس معنى أيديولجياً صرفاً.

يعتبر الموسيقار الفرنسي كلود ديبوسي  Claude Debussy 1862ــــ1918 أول من تمرّد على القواعد الموسيقية التي سيطرت في الفترة الرومنتيكية، فقد أعلن عن رِدته حين ألّف سيمونيته الموسيقية " البحر" سنة 1903. كان عمله هذا بمثابة إعلان عن انتمائه إلى التيار الفني الانطباعي فحطّم بذلك وهم الموسيقى العالمة والعقلانية. كانت الدول الأوروبية المستعمِرة، قبل ذلك،  قد فرضت سيطرتها العسكرية، الاقتصادية والثقافية على الدول المتخلفة، وسوقّت بالتالي ايديولوجيتها الإمبريالية التي كان عنوانها" المركزية الأوروبية".

لم ينتبه العرب المستعمَرون إلى التحول الذي طرأ على الموسيقى الكلاسيكية فغير محتواها، بحيث تحولت من نوع موسيقى تحيُّزي يشير إلى الانتماء، إلى موسيقى حرة تعبر عن المشاعر والأحاسيس ولا تخضع للقوالب الجاهزة ولا للقيود الهارمونية التي تشكّلت اجتماعيا وأصبحت تحيل إلى مفاهيم اجتماعية طبقية بحته. هذا التحول العميق الذي طرأ على الموسيقى الكلاسيكية كان نابعا من تحول تاريخي شهدته المجتمعات الأوروبية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين بعدما كشفت الأنثروبولوجيا الحديثة عن زيف مفهوم الحضارة المؤدلج. تأكّد بعد ذلك لعقلاء الأوروبيين أن ثقافات الشعوب الأخرى تستجيب لحاجيات نابعة من صميم البنى الاجتماعية لهذه المجتمعات، بدلا من المنظور الكولونيالي الشمولي الذي كان يتبنى مفهوم الثنائية الحضارية الزائف: بدائي/ متحضر.

بعد زوال المنظومة الاستعمارية تبنّت شعوب مستعمراتها السابقة نمط الدولة الحديثة الذي فرض وجوده بحكم الهيمنة الاقتصادية والثقافية الغربية. لم يكن بحوزة المجتمعات العربية نموذجا حضاريا بإمكانه أن ينافس النموذج الغربي لما حققه من تقدم وتطور وازدهار في جميع المجالات. بقيت المؤسسات التي أنشئها المستعمر، لخدمة مصالحه وتلبية لحاجيات مواطنيه، قائمة بهياكلها ومناهجها حتى بعد رحيله، لكنها أصبحت مسخرة لخدمة شعوب غير تلك التي أنجزت من أجلها.

كان ذلك حال المدارس الموسيقية والكونسرفاتوارات التي خلفها المستعمر الفرنسي في الجزائر، مناهج دراسية تُلقن للطلاب تماما كتلك التي تُدّرس في فرنسا وكامل مستعمراتها، تٌشعر الطلاب المتخرجين منها بنوع من الاستعلاء تجاه كل الأنواع الموسيقية الأخرى. لازلنا بعد ستين سنة من الاستقلال نُخَّرج طلابا يكرهون الموسيقى العربية، ويشمئزون من موسيقاهم الشعبية، ويتخذون موقفا قيميا تجاه أي موسيقى عدا الكلاسيكية لأنها، في نظرهم، ترمز للتطور وتُشعر ممارسيها ومستمعيها أنهم ينتمون لحضارة رائدة وثقافة مهيمنة.

إذا كان رواد الموسيقى الغربيون قد تخلوا عن وهم الموسيقى العالمة، بل وأصبحوا يحرصون على دراسة موسيقى الشعوب الأخرى ويسعون لكشف مكنوناتها لاعتقادهم أن قيمتها الفنية لا تُقاس بمعايريهم، بل تُكتشف من داخل البنى والأنساق الثقافية لهذه الشعوب، فلما لازال بعض الموسيقيين عندنا يتمسكون بوهم تنازل عنه أصحابه، ويقللون من شأن موسيقاهم، الشعبية منها والطليعية، ظانين بذلك أنهم يصطّفون ويتموقعون في صفوف المتفوقين حضاريا.

وصلت الموسيقى الكلاسيكية إلى شكلها الحديث والمعاصر عبر تطور تاريخي وثقافي دام عدة قرون، لكنه كان دوما نابعا من حاجة اجتماعية استدعت هذا التطور والتغير الذي طرأ على الأشكال الموسيقية عبر كل هذه العصور. فالموسيقى، في نهاية المطاف، هي تعبير عن تغير اجتماعي وتلبية لرغبات اجتماعية جديدة. فما أحدثه كلّ من زرياب، الفرابي، باخ،  ديبوسي، سيد درويش وأحمد وهبي، لم يكن بدافع رغبة فردية في التغيير فقط، بقدر ما كان استجابة لمتطلبات ظرفية جدية تستدعي نوعا من الإبداع لإشباع ذائقة اجتماعية تتطور باستمرار.

هل مجتمعنا فعلا في حاجة إلى الموسيقى الكلاسيكية بالشكل الذي يدرسه طلابنا في معاهد الموسيقى؟ بمعنى آخر هل تُلبي المعاهد الموسيقية، من خلال ما تُخّرجه من دفعات، حاجات اجتماعية تتطلب الاشباع. في اعتقادي لا، فالبرامج التكوينية التي يتلقاها الطلاب في هذه المعاهد بعيدة كل البعد عما يشهده المجتمع من تغيرات في الأشكال الموسيقية والأذواق. قد يُفهم من كلامي أنني أريد من هذه المعاهد أن تقتفي أثر الرداءة التي تطغى وتسيطر على الساحة الفنية، أبداً، فكل ما أطالب به هو أن تكون المناهج الدراسية تستجيب لحاجيات مجتمع في طور التكوين، لا مناهج مستوردة تشكلّت في بيئات ثقافية معينة وتستجيب لتغيرات اجتماعية لمجتمعات بعينها.

إننا نكوِّن طلابا يشعرون بنوع من الغربة، في مجتمعهم، بعد تخرجهم، فلا يجدون مناصا من الهجرة إلى مجتمعات أوروبية أين يجدون أرضية ثقافية تتوافق مع شهاداتهم ثم لا يجدون صعوبة في الحصول على مناصب شغل. فلماذا كل هذا العناء والجهد المادي والمعنوي لأجل صناعة عقول وطاقات لا نستفيد منها، بل ونحضرها ونجهزها لتستنزفها مجتمعات تسعى، بكل ما أوتيت بقوة، لأن نبقى تابعين منقادين للحضارات والثقافات المهيمنة.

حقا، كان على الموسيقى الشرقية عموما والعربية على وجه الخصوص أن تنحى منحى الغرب في التدوين والدراسة النظرية والعلمية، وهذا ما حدث بالفعل منذ مؤتمر القاهرة للموسيقى العربية في سنة 1932. لكن لم يكن لزاما علينا أن نتقيد بالمناهج الغربية ونحرص على تقديسها أكثر منهم، إذا كان بعضهم إن لم نقل غالبيتهم، في زمننا المعاصر، قد تمردّوا عليها، بل وانفتحوا على موسيقى الشعوب المختلفة.

الفنون، في مجملها، هي حالات إبداعية لا تعكس الواقع بل تسعى إلى تحسينه من خلال نقده وكشف الزيف الذي يشوبه، لكن بشرط أن تكون نابعة من صميم البنى السوسيوثقافية، معبرة عن قلق، معاناة، أحلام وطموح الأفراد. الفون التي لا تتطابق مع مجتمعاتها هي مجرد أقنعة تحاول بعض الطبقات والنخب أن تخفي بها ما اصابها من تشوهات ثقافية وتيه هوياتي.

***

تركي لحسن

في المثقف اليوم